[بداية أدواء الأمة]
من هنا كانت أدواء الأمة في غايتها ومبدأها منطلقة من التقاطع والتناحر، فكلما اجتمعت هذه الأمة واتفقت على مبدأ من المبادئ وأزالت ما بينها من عمل الشيطان وعمل أوليائه وجنوده كلما استقام دينها، ولذلك فإن من أعظم وظائف هذه الأمة وأهمها الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ولا يمكن أن يتم الجهاد إلا باتفاق الكلمة؛ لأن الفرادى لا يمكن أن يقفوا في وجه الموج السائر الطاغي، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:٣٦]، فكما يقاتل المشركون كافة لابد أن نقاتلهم كافة، ولابد أن يهتم بذلك جميع أفراد الأمة.
وهذا الجهاد وحده هو الذي ضمن الله لمن التزم به الهداية إلى نهجه القويم، فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:٦٩]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:٤ - ٦].
إن الأمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تعرف طريق الحق برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معصوم، فما دام بين ظهرانيهم لن يضلوا {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات:٧]، لكن بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتاج الأمة إلى علم للهداية، وإلى إرشاد على طريق الحق، وإلى مناصب تعرف بها المحجة التي تركها عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكل ذلك لا يتحقق إلا بالجهاد في سبيل الله، فإن حققت الأمة الجهاد في سبيل الله ضمن الله لها الهداية إلى طريقه المرضي عنده، وإن تركت الجهاد في سبيل الله وتخاذلت فيما بينها وتقاتلت سلط الله عليها أعداءها، وكان ذلك نقصاً في دينها وإيمانها بالله.
ولذلك أخرج أبو داود في السنن وأحمد في المسند وغيرهما من حديث عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).
وقد علم من منطوق الحديث أن الدين الذي يطلب الرجوع إليه حينئذ وبه ترفع الغمة عن الأمة هو الجهاد المتروك؛ لأنه قال: (وتركتم الجهاد).
والدين اسم يطلق على كل ما يدان الله به، ويطلق على بعضه أيضاً، فلذلك قال: (وتركتم الجهاد)، ثم قال بعدها: (حتى ترجعوا إلى دينكم) أي: إلى ما تركتم من دينكم، وهو الجهاد في سبيل الله، فهو دين يتعبد الله به.
إن وحدة هذه الأمة لا يمكن أن تقاس إلا عند حصول الأزمات والنكبات، وهذه الأزمات والنكبات قد تعهد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا تشمل الأمة كلها، فإنه صلى الله عليه وسلم (سأل الله لأمته ثلاثاً: سأل الله أن لا يأخذهم بالسنين فأجاب دعوته، وسأله أن لا يسلط عليهم عدواً يستأصل شأفتهم.
فأجابه لذلك، وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يجبه لذلك).
فلا يمكن أن يتسلط عدو واحد على الأمة كلها حتى يستحوذ على بيضتها ويزيل كيانها، فهذا مستحيل قد تعهد الله بمنعه، لكن يمتحن الله هذه الأمة بتسليط الأعداء على أطرافها، فهذه الأرض تنقص من أطرافها، فالله سبحانه وتعالى بين أن ذلك من أشراط الساعة، وبين أنه يأتي الأرض ينقصها من أطرافها، وذلك امتحان للأمة، فإذا تحرك فيها روح الإيمان ونوره عادت إلى منهجها الرباني القويم، وتمسكت بدينها وتماسكت فيما بينها، ونصرت المظلوم منها على ظالمه، ووقفت في وجه الطغيان من أي جهة كان مصدره، وحينئذ لابد أن يكتب الله لها النصر والتمكين.
لكن من المؤسف أن هذا الحال المنشود المطلوب أحوج ما تكون إليه الأمة في مثل زماننا هذا عندما تكالب أعداء الله على هذه الأمة، فأتوا البلاد من أطرافها، واستضعفوا الشعوب وأذلوها، وكان ذلك بالكيد المدبر المبيت وكان أمراً قد أبرم بليل.