إن الإنسان محتاج إلى العناية بتربية نفسه، ولذلك وسائل كثيرة: فمن أهم الوسائل قراءة سير السابقين الذين بلغوا المقامات العلية، وقراءة سيرهم ليست لمجرد الثقافة والتاريخ، وإنما هي لأخذ العبر، وليرسم الإنسان لنفسه طريقاً فيحاول تطبيقه، ولهذا فإن مؤلفات هذه الأمة في التاريخ كثيرة جداً، فلماذا ألفوا فيه؟ لماذا كتب لنا الذهبي رحمه الله أكثر من ثلاثين كتاباً في التاريخ والسير وتراجم الرجال؟ إنما فعلوا ذلك ليكون هذا حافزاً للناس على التخلق بأخلاق هؤلاء، والتربي بتربيتهم، وسلوك منهجهم، فإن الإنسان إذا قرأ سيرة أحد هؤلاء الأعلام من السلف الصالح -وكان ذا همة- حاول أن يسد مسده للأمة، وليتذكر الشباب الآن أن علماء الأمة وعظماءها وقادتها ليسوا مخلدين، فما منهم أحد إلا وهو على موعد مع ملك الموت، وإذا جاء ذلك الموعد لا يمكن أن يتأخر ولا أن يتقدم، والأمة محتاجة إليهم فمن سيخلفهم؟ ومن سيأخذ اللواء منهم؟ لا ترضى الأمة أن يسقط اللواء على الأرض، بل تريد من يقوم بحمل هذا اللواء ويتهيأ لذلك، وأنتم تعرفون قول حسان رضي الله عنه: لم تطق حمله العواتق منكم إنما يحمل اللواء النجوم فلا بد من هؤلاء النجوم الذين يتأهبون لحمل اللواء، ويستعدون لذلك، فيعدون العدة له قبل أن يصابوا بهذه المصيبة، كل إنسان عليه أن يفكر أنه ربما يكون في يوم من الأيام مسئولاً عن دين الله في بلد من البلدان، فالذين يعول عليهم الآن القيام لله بالحق والقسط هم على موعد مع ربهم، وسيلبون نداءه، وكذلك هم عرضة للفتنة وعرضة للقتل والسجن وغير ذلك، فلا بد ممن يخلفهم ويقوم مقامهم، فقبل أن يأتي ذلك اليوم الذي يتعين عليك أن تقوم مقام أولئك، فاجتهد بنفسك في أن تصل إلى المقام الذي وصلوا إليه، وأن تكون عتاداً جاهزاً يخلف أولئك السابقين، كحال أهل مؤتة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم زيد بن حارثة رضي الله عنه، ثم قال:(أميركم زيد، فإن قتل فـ جعفر بن أبي طالب، فإن قتل فـ عبد الله بن رواحة، فإن قتل فليتفق المسلمون على رجل منهم)؛ ولذلك فإن ثابت بن أقرم رضي الله عنه، كان قريباً من عبد الله بن رواحة، فلما قتل أخذ اللواء وقال: يا معشر المسلمين! إني ما أخذته لأقودكم، وإنما أخذته لتقدموا رجلاً منكم، فقدموا خالد بن الوليد فأعطاه ثابت بن أقرم اللواء.
ومصائب المسلمين باخترام قادتهم، وحملة اللواء فيهم، هي من جنس الابتلاء الذين يبتلون به في أديانهم، وهي مستمرة وسنة كونية لا انقطاع لها، فهم يحتاجون كذلك إلى وجود البدائل الجاهزة، التي يمكن أن تكون عند مستوى التحدي، وهذه البدائل لم تكن إلا أصحاب الهمم العالية الذين يفكرون في سد مسد هؤلاء، ويفكرون بتفكير جاد، ليأخذوا قسطهم الآن قبل أن يصل إليهم الدور، فهم ينتظرون في الطابور، ويعلمون أن الكراسي هي مثل كرسي الحلاق، يجلس عليه هذا فإذا حلق رأسه قام فجلس غيره.
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب فلهذا يتمثلون دائماً قول الشاعر: يمثل ذو اللب في لبه مصائبه قبل أن تنزلا فإن نزلت بغتة لم ترعه لما كان في نفسه مثلا وذو الجهل يأمن وأيامه وينسى مصارع من قد خلا فإن دهمته صروف الزما ن ببعض مصائبه أعولا فالعويل لا فائدة فيه، بل هو كما قال الأعرابي: نصرها بكاء وبرها سرقة، فلهذا علينا أن ننظر إلى حال الذين سدوا للأمة مسداً، وكيف كانت حوافزهم لذلك، عندما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم كان عبد الله بن عباس فتى في العاشرة من عمره أو الثالثة عشرة، قال: فذهبت إلى لدة لي من الأنصار كان يلعب معي، فقلت: يا أخي! إن الله قد أخذ رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن علمه في أصحابه، فتعال بنا نجمع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الأمة تحتاج إلينا يوماً من الأيام، قال: فقال لي: دعنا نلعب فمتى يحتاج إلينا، فذهبت وتركته، فذهب ابن عباس في طلب العلم، فلم تمض سنوات قليلة حتى أصبح عضواً في مجلس شورى الأمة الإسلامية، وكان عمر يجلسه بين كبار أهل بدر، ويسميه فتى الكهول، ولا يقضي أمراً حتى يستشيره فيه، ولذلك يقول فيه أحد الصحابة: بلغت لعشر مضت من سنيـ ك ما يبلغ السيد الأشيب فهمك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا ويقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه: إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه رأيت له في كل محمدة فضلا إذا قال لم يترك مقالاً لقائل بمنتظمات لا ترى بينها فصلا كفى وشفى ما بالنفوس فلم يدع لذي إربة في القول جداً ولا هزلا