[أمور يتحصل بها اليقين]
فلذلك قال: (لكي تسير النفس مطمئنه) ماذا يلزمه؟ أن يمعن النظر في الدلائل، وإنما يحصل اليقين بأمرين: الأمر الأول: نظري.
والأمر الثاني: عملي.
فالأمر النظري: هو استعمال الدلائل؛ ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:٢٦٠].
والأمر العملي هو زيادة التقرب إلى الله تعالى لتأتي مواهبه التي وعد بها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:٢٩].
فالإنسان محتاج إلى هذين الأمرين، ولذلك فالعلم كله ينقسم إلى علمين: - علم مكتسب، وهو: العلم الصادر عن طريق الدلائل.
- وعلم لدني، أي: موهوب من عند الله سبحانه وتعالى، وهذا نتيجة العمل، فيوازي الإنسان بين هذين الجانبين، ويزيد علمه بالعمل فيتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، ويكثر من النوافل فيفتح الله له فتوحاً نافعة.
وكذلك يزيد علمه بالاستطلاع والدلائل ويهتم بهذا الجانب النظري أيضاً فلا يتكل على أحد الجانبين وحده بل يسير في خطين متوازيين لابد من اجتماعهما؛ لأن الإيمان قول وعمل، قول يشمل الاعتقاد، وعمل يشمل عمل القلب وعمل الجوارح، فلابد من إمعان النظر في الدلائل.
والدلائل جمع دليل، والدليل في اللغة يطلق على المرشد، ومنه قول الشاعر: إذا حل دين اليحصبي فقل له تزود بزاد واستعن بدليل سيصبح فقيع أكتم الريش واقعاً بقال قلا أو من وراء دبيل فقوله: (واستعن بدليل)، أي: بمرشد في المتاهات والمسافات الشاسعة.
ويطلق كذلك على الأمارة، ومنه قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان:٤٥ - ٤٦]، أي: جعلنا الشمس عليه علامة، فإذا وجدت الشمس وجد الظل وإذا غربت عدم الظل.
وهو في الاصطلاح: ما يثبت الشيء، وللأصوليين والمناطقة اصطلاحات في تعريف الدليل، فالأصوليون يقولون: الدليل هو ما يحصل بصحيح النظر فيه العلم بمطلوب الخبر، وبعضهم يقول: ما يؤدي صحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، والفرق بين التعريفين: أن التعريف الأول يقتضي أن الدليل هو ما أدى إلى القطع فقط، وغيرها لا تسمى دلائل وإنما تسمى أمارات، وهذا اصطلاح لبعض المتكلمين، فتقيد به بعض الأصوليين.
والقول الثاني أرجح وهو: أن الدليل هو ما يؤدي صحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري سواء كان ذلك باليقين أو بالظن.
وقولنا: (ما يؤدي)، أي: بعد الأخذ به، فالدليل سابق على المدلول، فإذا كنت تريد معرفة حكم شرعي، فاعلم أن الآية قد نزلت، وأن الله سبحانه وتعالى قد أمر بهذا، فأمر الله المنزل من عنده هو الدليل، وهو سابق على المدلول وهو معرفتك أنت بالحكم الذي طلب منك.
فمثلاً: وجوب الوضوء مطلوب خبري، والمطلوب معناه: ما يتعلق به الطلب، وهو الذي يكون قبل الاستدلال دعوى ووقت الاستدلال مطلوباً وبعد الاستدلال نتيجة؛ لأنه نتيجة الدليل، فله ثلاثة أحوال: قبل الاستدلال.
ووقت الاستدلال.
وبعد الاستدلال.
فهذا هو الذي يسمى مطلوباً، وهو إما أن يكون إنشائياً وإما أن يكون خبرياً، فالإنشائي تنطلق فيه من نفسك ولا تحتاج فيه إلى غيرك؛ لأنه إيقاع توقعه مثل: بعت واشتريت وأعتقت.
والخبري المنسوب إلى الخبر، والخبر هو ما يقبل الصدق والكذب لذاته، أي: يمكن أن يكون صادقاً ويمكن أن يكون كاذباً لذاته بخلاف الإنشاء، فهو لا يقبل الصدق والكذب لذاته ولا يسمى خبراً، لكن إن كان الخبر لا يقبل الصدق والكذب لكن لا لذاته بل للمتكلم به ككلام الله تعالى، والخبر من رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يقبل التكذيب أبداً بل هو صدق قطعاً؛ لكن عدم قبوله للكذب ليس راجعاً إلى ذات الخبر وإنما هو راجع إلى المتكلم به، وهكذا.