السفر إلى الأموات لقصد الزيارة محل خلاف بين أهل العلم، والذي يبدو لي أنه إذا كان للوالدين مثلاً، أو كان الشخص يجد قسوة شديدة في قلبه ويحتاج إلى أن يتذكر أنه سيدفن في هذه التربة على الغالب وإلا فهو لا يدري أين يدفن:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}[لقمان:٣٤]، فإذا كان كذلك فلا أرى بأساً في خروجه مسافراً لهذا الغرض، لكن ينبغي أن ينوي بذلك سياحة في سبيل الله تعالى وتفكراً في عجائب خلق الله تعالى، وموعظة، وأن لا يطلب شيئاً -من هذه الزيارة- من الأمور التي يسافر لها الناس، إذ كثير من الناس يسافرون إلى أصحاب القبور والذين لا يدرى هل هم في جنة أو في نار ويطلبون منهم ما لا يقدرون عليه في حياتهم فكيف بهم بعد موتهم؟ والله تعالى يقول:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[فاطر:١٤].
ولو قال قائل: إنه ثبت مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم للأموات وسماعهم لكلامه، فنقول: قد جاء في كتاب الله تعالى قول الله مخاطباً محمداً صلى الله عليه وسلم الذي هو خيرة الله في خلقه: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}[النمل:٨٠]، وجاء فيه قول الله تعالى:{وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ}[الأنبياء:٤٥]، وجاء فيه قول الله تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ}[فاطر:٢٢ - ٢٣]، فكل هذا يقتضي عدم الاتصال بين الأحياء والأموات نهائياً.
وكذلك قول الله تعالى:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون:١٠١]، {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون:١٠٠]، (من ورائهم برزخ)، أي: من دونهم حاجز يحول بينهم وبين الحياة الدنيا وما فيها إلى يوم يبعثون: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}[المؤمنون:١٠٠ - ١٠٣].
وأما الاستدلال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم خاطب أهل القليب يوم بدر، فهذا ليس حجة في الموضوع؛ لأنه إنما علم عن طريق الوحي أنهم يسمعون، وأن هذا من تعذيبهم، وهو تعذيب لهم لا مسرة تدخل عليهم، فهو مما يزيد عذابهم، ولذلك قال:(ما أنتم بأسمع منهم بما أقول)، فهذا من جنس عذابهم ولا يستدل به في النعيم.
وعلى كل فحتى لو قدر أن الأموات يسمعون فإنهم لا ينتفعون بسماع شيء مما يصل إليهم أبداً، وهذا محل إجماع: أنهم لا ينتفعون بالسماع.
لكن هل يسمعون أم لا؟ هذا محل خلاف.
وهل ينتفعون بالسماع؟ لم يقل أحد بانتفاعهم به، فلا ينتفعون بشيء مما يسمعون.