ثم بعد هذا لابد أن نعلم أن الخلاف الفقهي الاجتهادي هو من توسعة الله على عباده ومن نعمه عليهم، وينبغي أن يحمدوا الله عليه، فلو كان في الدنيا مذهب واحد لما استطاع الإنسان أن يعمل به في كل الجزئيات.
ومن العجائب أني لقيت رجلاً إنجليزياً من الإنجليز المسلمين في أدنبرة شمال بريطانيا عنده دعوة يدعو إليها، وقد استجاب له كثير من المسلمين البريطانيين والإسبانيين، فسألته عن أساس دعوته فقال: إنه يريد أن يوحد العالم على أساس المذهب المالكي، فقلت له: يا أخي! أولاً وحد لنا المذهب المالكي فقط، المذهب المالكي عندنا فيه كثير من الأقوال، فـ مالك نفسه رجع عن مائة وخمسة وتسعين مسألة ما بين المدونة والموطأ، وله أقوال متنوعة ما بين المدونة والموطأ، وما روى عنه أصحابه فيه عدد من المسائل الكثيرة التي فيها خلافات في الرواية عن مالك نفسه، يروي عنه ابن القاسم شيئاً، ويروي عنه أشهب خلاف ذلك الاجتهاد؛ لأن اجتهاده متنوع، ومالك غير متعصب، ولم يكن أبداً يتعصب لرأيه، بل كان صاحب حق وصاحب دليل، فما وجد الدليل عليه أخذ به، ويعلم أنه غير محيط بكل الأدلة، فإذا جاءه دليل صحيح عنده تراجع عن قوله الأول وأمر بمحوه، والممحوات مشهورات عند المالكية، وهي ثمان مسائل أمر مالك بمحوها، وكانت من رأيه هو اجتهد فيها ورآها ثم رجع عنها، وقال: هذه عليها ظلمة فاطمسوها، رأى أنها لا دليل عليها وأن فيها ظلمة في الاجتهاد فأمر بمحوها واشتهرت بالممحوات، وهي دليل على ورع مالك ورسوخه في العلم وجلالة قدره رضي الله عنه وأرضاه.
كذلك فإن أصحاب مالك خالفوه في مسائل كثيرة، فهذا ابن القاسم في المدونة كثيراً ما يقول: وكان مالك يوماً يقول فيها كذا وأنا أرى خلاف ذلك، وكثيراً ما يقول أيضاً بعد أن يروي عن مالك: سمعته يقول فيها كذا والذي عندي فيها غير ذلك، وقد ذكر خليل في المختصر مسائل اختلف فيها قول مالك وقول ابن القاسم منها مثلاً: إذا وصل الإنسان إلى سجود التلاوة في القراءة وهو قائم يقرأ فسها فركع بدل السجود هل يعتد بتلك الركعة أو لا؟ فاختلف قول مالك وابن القاسم، فـ مالك رأى أنه يعتد بهذا الركوع وأنه قد تجاوز السجدة فسقطت عنه، وابن القاسم رأى أن هذا الركوع سهو وأنه لا يعتد به وأنه يتجاوزه إلى السجود، ويلزمه سجود بعده.
وقد أشار إلى هذا خليل في المختصر قال:(وسهو اعتد به عند مالك لا ابن القاسم).
ونظير هذا مسائل كثيرة، ثم إن الخلافات في المذهب المالكي دون ذلك كثيرة جداً، فالخلاف بين ابن وهب وابن نافع، والخلاف بين أشهب وابن القاسم كثير جداً، حتى بعد هذا فمدارس المالكية أربع: المدرسة المدنية وشيخها عبد الملك بن الماجشون ثم مطرف ثم المغيرة، والمدرسة العراقية وشيخها القاضي إسماعيل، وأبو مصعب الزهري ثم بعدهما عدد من الأتباع، والمدرسة المصرية: وشيخها ابن القاسم ومعه أشهب وابن نافع وابن عبد الحكم وغيرهم، والمدرسة المغربية وهي تبدأ من القيروان وشيخها من أصحاب مالك علي بن زياد والبهلول بن راشد، وغيرهما من أصحاب مالك كـ ابن غانم، وعبد الله بن فروخ، ثم بعد ذلك سحنون وأتباعه.
فهذه أربع مدارس كلها داخل المذهب المالكي وكلها لها أبواب، وأنتم تعرفون أن خليلاً رحمه الله كثيراً ما يقول في المختصر:(قولان)، وذلك إذا لم يترجح أحد القولين وكانت المسألة فيها قولان على حد سواء، فإذا أردت أن توحد الناس مثلاً على مذهب مالك فبأي القولين ستأخذ، وهما قولان متساويان في مذهب مالك، كذلك كثيراً ما يقول لفظ (خلاف) وهو يشير به إلى أن اثنين على الأقل من المتقدمين اختلفا في مسألة فرجح بعض المتأخرين واحداً من القولين ورجح بعضهم القول الآخر، فبأي القولين ستلزم الناس حتى تجمعهم على قول واحد.