تاريخ الأمة حافلٌ بالعز بعد الذل، وليس هذا مستغرباً، تعرفون أن التتار لما دخلوا بغداد في عام (٦٥٤) من الهجرة، وذبحوا الخليفة وسبعمائة ألف معه على شاطئ النهر!! وكانت المرأة من التتار تأتي عدداً من رجال المسلمين فتقول: انتظروني هنا حتى آتي بالسكين أذبحكم بها، فينتظرونها حتى تأتي بالسكين فتذبحهم واحداً بعد الآخر وهم ينظرون؛ بسبب الوهن الذي دب في النفوس، وما هي إلا فترة يسيرة حتى عادت بغداد إلى مكانتها، ورجع إليها المسلمون بكل قوة، وانهزم التتار، ولهذا يقول أحد الشعراء فيها: بغداد صاحبة الزمان صروفا شتى ولابسة الزمان ظروفا شابت وعاودها الشباب ولم تزل أماً لأفذاذ الرجال عطوفا لم تنس عهد بنين قد ثكلتهم وسرى بهم ريح الذناء عصوفا ونظير هذا كثير، فعندما استقر العُبيديون بالقاهرة، وقتلوا علماء أهل السنة، ذبحوا منهم أكثر من ثلاثمائة عالم، وأرادوا القضاء على السنة بالكلية، حتى زعم زاعمهم أنه لن تقوم للسنة قائمة بعد اليوم في مصر، ولم تمض سنوات قليلة حتى ذهب الله بهم ورجعت إلى السُنة مكانتها وقوتها، جاء صلاح الدين الأيوبي الذي كان من خدمهم فأصبح قائداً لأهل السنة، وأصبح على تلك المكانة، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ويقوم ثلث الليل دائماً، وكان محدثاً، فاجتمع حوله يوماً عدد من طلاب الحديث، فسألوه أن يحدثهم بحديث مسلسل بالابتسامة، وهو حديث مشتهر على ألسنة المحدثين، فحدثهم به ولم يبتسم، فقالوا: لو سمح سيدنا بالابتسامة حتى يتسلسل لنا الحديث، فقال: إني لأستحي من الله أن أبتسم وبيت المقدس بيد الصليبيين، ثم غزا الصليبيين حتى أخرجهم من بيت المقدس وحرره منهم، وكذلك ما حصل للأتراك المسلمين عندما غزوا مدينة هرقل وهي القسطنطينية التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:(تفتح عليكم القسطنطينية مدينة هرقل، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش جيشه)، خرج محمد الفاتح لحصارها، وهو يعلم أن ملوك المسلمين وأمراءهم من قديم الزمان كانوا يغزونها من أجل هذا الوعد، ويرجون أن يكونوا هم الموعودين بهذا الوعد:(نعم الأمير أميرها، ونعم الجيش جيشه)، فقد غزاها يزيد بن معاوية ومعه أبو أيوب الأنصاري، وغزاها عدد كبير من قادة المسلمين فلم تفتح، فغزاها هو ففتحها الله عليه، فلما فُتحت ودخل عزيزاً منصوراً كنيسة (أياصوفيا) وهي الجامع الكبير باسطنبول الآن، واجتمع المسلمون للصلاة قال: هل أحد في الجيش منذ أن بلغ لم تفته تكبيرة الإحرام في صلاة الفجر في الجماعة؟! قالوا: لا.
قال: إنها مسألة كنت أحتسبها عند ربي، ولم يكن يطلع عليها أحد، ولكني اضطررت لأن أبينها اليوم، فما فاتتني تكبيرة الإحرام في صلاة الفجر في الجماعة منذ بلغت إلى وقتي هذا، فتقدم فصلى بالناس.