[التسليم بقصور العقل منطلق إلى الإيمان]
المنطلق الأول للإيمان هو التسليم بأن العقل قاصر، فلا يمكن له أن يحيط بكل شيء، والإنسان محتاج إلى الوحي في كل أموره، وذلك أن طريق المعرفة التي يحتاج إليها الإنسان يريد بها اكتشاف نجدين: نجد الضرر ونجد المنفعة، يريد أن يعرف ما ينفعه وما يضره.
ومنفعة الإنسان نوعان: نوع دنيوي ونوع أخروي، فالنوع الأخروي محجوب عن العقل نهائياً لا يمكن أن يصل إليه، فلا يمكن أن يكتشف الإنسان منفعة أخروية أو مضرة أخروية؛ لأن كل أمور الآخرة محجوبة عنه لا يعرفها إلا عن طريق الوحي.
وكذلك المنافع الدنيوية والمضار الدنيوية يصعب على الإنسان تحديدها بعقله؛ لأن الإنسان قد يتوقع شيئاً من المصلحة والمنفعة، ثم ينقلب عنه ويراه مضرة سافرة، وسمي القلب قلباً لتقلبه.
ومما تعرف به ربك نقض العزائم، حيث تعزم اليوم على أمر وبعد سنة تجد رأيك قد تغير عنه تماماً، وتجد أمراً كنت تعزم على أدائه، وتحرص عليه فإذا بك قد زهدت فيه وتركته بالكلية.
وكذلك قد يتوقع الإنسان في شيء مصلحة فيما يعود عليه بالضرر من حيث لا يشعر، فكثير من المآكل والمشارب التي يحبها الإنسان ويرغب فيها تعود عليه بالضرر، فمن أجل هذا عرف أن المنافع والمضار الدنيوية أيضاً لا يمكن أن يحيط بها العقل، فهي محتاجة إلى تحديدها بالوحي.
والإنسان بحاجة إلى هذا الوحي حتى يؤمن بأركان الإيمان الستة، فتكون منطلقاً سليماً للعقل؛ لأن العقل جارحة من جوارح الإنسان، فللإنسان عين أقرب شيء إليها الجفن، وإذا أطبق عليها جفنه لا يرى العروق الحمراء التي فيها، ولا يرى الألوان التي فيها لقربها، وكذلك إذا وقف في مكان معتدل فإن لبصره حدوداً لا يتعداها، وذلك أنه مسبوق بالعدم وسيلحقه العدم أيضاً، فهو حلقة من الوجود في دائرة كبيرة من العدم، ومن أجل هذا لا يمكن أن يدرك إلا شيئاً محصوراً، وكذلك سمعه، وكذلك عقله، فالعقل له مبادئ منها ينطلق إلى المشاهدات والحسيات والمسلمات.
كثير من الأمور التي تربى عليها الإنسان في صغره لا يناقش عقله فيها، مثل: العادات، لا يسأل الإنسان عقله: لماذا ألبس هذا النوع من اللباس؟ لماذا أجلس هذا النوع من الجلوس؟ لماذا أعمل هذا النوع من الأعمال؟ لأن هذه أمور فطر عليها، وتربى عليها من بداية خلقته، لكن ما تجدد لديه هو الذي يتعب العقل بكثرة مناقشته، لأنه شيء جديد عليه.
المسلمات الأولية يسلم بها العقل، ويقتنع بها قناعة مطلقة، وهذه القناعة لا تقبل المناقشة، ويجد الإنسان نفسه مضطراً إلى التسليم بها بالكلية، وكذلك ينبغي له في المجالات التي لا يصل إليها العقل، وهي كل المجالات المتمحضة للوحي؛ ينبغي أن ينطلق الإنسان فيها من التسليم المطلق، فما عجز العقل عن تصوره فهذا لنقص عقله لا لنقص الوحي، ولا لقصور فيه، فهو أمر مسلم ثابت لا يقبل النقاش، والعقل إما أن يفهمه فهذا فضل من الله وهبة منه، وإما أن لا يفهمه فالنقص في العقل لا في الوحي.
وإذا انطلق الإنسان من التسليم بهذا فإن العقل قد استنار واستفاد، وعرف حقيقة الإيمان وأشربه، ولهذا علامات تدل عليه، فمن علامات إشراب العقل البشري للإيمان: محبته لله سبحانه وتعالى، واتصاله به، وكذلك رضاه بقضائه وقدره، وكذلك توكله عليه واعتماده عليه في كل أموره، وكذلك مسارعته للتوسل إليه بالأعمال الصالحة، وكذلك الدعاء واللجأ إلى الله عندما يدرك الإنسان ضعفه وأنه لا حول له ولا قوة إلا بلله، وكذلك خوفه من الله سبحانه وتعالى ورجاؤه لما عنده، فهذا دليل على أن الإيمان قد خالط بشاشة قلبه، وأنه انطلق من باب التسليم، حيث لم يعتمد على الأسباب الظاهرية ولم يناقش عقله في الأمور الباطنية.