للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الثقة]

الصفة الرابعة: الثقة، فلابد أن يكون الداعية واثقاً من نفسه، واثقاً من منهجه، وأن يكون من يدعى واثقاً به، ولابد أن يبني ثقة الناس به هو، فإذاً لابد أن يبني ثقته أولاً هو بنفسه، وبمنهجه، وبالناس، ثم يبني ثقة الناس به، فالذي لا يثق بنفسه لا يمكن أن يضحي.

ولهذا فإن بني إسرائيل حين فرض الله عليهم دخول (أريحا)، قالوا {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:٢٢]، ففرض الله عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض، حتى مات كبارهم الذين تعودوا على المذلة لفرعون وجنوده، ونشأ جيل عاشوا في الشغف والتنقل والتيه، فكانوا هم الذين يستطيعون الجهاد في سبيل الله.

وإنما وثق من بني إسرائيل رجلان فقط، حكى الله كلامهما فقال: {قَالَ رَجُلانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ} أي: من بني إسرائيل الذين هم أهل الخوف والذلة والمسكنة، أو من الذين يخافون الله، {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بتوفيقهما لذلك {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:٢٣].

ومثل ذلك أن يثق بمنهجه، فإذا كان الداعي إلى منهج أو على منهج لا يثق به، ويتردد فيه، ولا يدري هل غيره أقوم من منهجه، فإنه لا يمكن أن ينجح في دعوته؛ لذلك التردد الحاصل لديه، ولهذا قال الزبيري رحمه الله عندما جادله بعض الجهمية: أأرجع بعدما رجِفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني إلى أن قال: فما عوض لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين صلى الله عليه وسلم فلابد أن يثق الداعية بمنهجه وأن يعلم أنه أحسن الموجود وأقومه، ولو كان اجتهاداً، فهو يعلم أنه هو أصح الموجودين لو علم أن غيره أصح منه وأحسن لتبعه بالضرورة؛ لأن اتباع الحق واجب، وقد قال عمر رضي الله عنه في كتابه لـ أبي موسى الأشعري: (ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل).

وكذلك ثقته بالمدعوين، فقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به.

ثم بعد هذا بناء ثقة الآخرين به هو، فالداعية عرضة للعداوة، كما قال ورقة بن نوفل: (إنه لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) وقد قال الشاعر: ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل والداعية قد دعا الناس إلى ذمه بسلوكه طريق الحق، فلابد أن يجد عليه أعداءً يدافعون عن الباطل، ولا يرضون طريق الحق أبداً، وهم خصوم الرسل، وما من نبي إلا وقال فيه بعضهم: كذاب مجنون ساحر إلى غير ذلك من أنواع التُّهمِ والشبهات، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى أن ذلك ماضٍ مسلسل، فقال: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:٥٣].

ومن هنا فلن يضيق الداعية ذرعاً بما يوجه إليه من الشبهات؛ لعلمه أنها وجهت إلى من هو خير منه، لكن مع هذا يسعى لقطعها عن نفسه ما استطاع، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع الشبهات عن نفسه، فقد كان في معتكفه في رمضان فأتت أم المؤمنين صفية بنت حيي تزوره في معتكفه، وكان ذلك في ليلة مظلمة فأراد أن يرجعها إلى غرفتها؛ حتى لا تخرج وحدها في الليل، فخرج يقلبها، فرآه رجلان من الأنصار، فلما رأيا المرأة معه أسرعا، فقال: (على رسلكما إنها صفية بنت حيي، فقالا سبحان الله!! أنتهمك؟ قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم).

فلابد أن يكون الداعية بعيداً عن مواقع التهم، وقد كان مالك يعتذر عن نفسه إذا حصل منه أمر ظن أن الناس سينقدونه، وبين وجهه فيه.

وهذا ما حصل للخضر مع موسى، فإن موسى انتقد عليه ثلاثة أمور: الأمر الأول: خرقه للسفينة وقد حمل فيها بغير أجرٍ وهي في عرض الماء، والثاني: قتله للولد الصغير الذي لم يبلغ الحلم والتكليف بعد، والثالث: إصلاحه لجدار أهل القرية الذين امتنعوا من ضيافتهم، ولم يأخذ عليه أجراً، فأجابه عن ذلك جميعاً بما بيَّنه الله في كتابه.

ومما يذكره أهل التفسير في هذا الأمر أن ذلك كان دروساً أخرى لموسى من وجه آخر، فموسى عندما أنكر على الخضر خرق السفينة في الماء كان يظن أن السفينة إذا خرقت ودخلها الماء ستغرق، وقد نبه بذلك إلى أنه هو قد رمته أمه في التابوت في البحر ولم يغرق وهو صغير.

كذلك إنكاره عليه قتل الغلام فيه تنبيه لقتله هو للرجل الذي وكزه فقضى عليه.

وكذلك في إصلاحه للجدار لولدي الرجل الصالح، فيه تنبيه لقصة حصلت له هو عندما ورد ماء مدين كما قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:٢٣]، فسقى لهما، ولم يأخذ على ذلك أجراً، فكان ذلك تنبيهاً له على فضل الله عليه ونعمته به.