إنك حين تصلح نفسك وتجعل منها نموذجاً صالحاً ملتزماً بشرع الله تعالى مسارعاً إلى الخير محققاً لزومية اتباع رسول صلى الله عليه وسلم تكون قد انتصرت على نفسك، وكان ذلك إرشاداً لمن سواك، وضرب مثلٍ لهم ليقتفوا أثرك، وحين تعجز عن هذا فلا تعجز عن أن تكف الشر وأن تقتصر على أن لا تكون آلةً تستغل في الشر، فما أكثر الذين يستغلون من حيث لا يشعرون، ما أكثر الذين يقادون بأزمتهم إلى الشر من حيث لا يشعرون فيستغلون في معصية الله سبحانه وتعالى، تستغل أوقاتهم بالمعصية ويسخرون لها، وتستغل أموالهم في المعصية وتؤخذ منهم لذلك، أو يؤدونها طائعةً بها أنفسهم.
ولو أن رئيساً أو جباراً من أهل الأرض أخبر قوماً أنه سيزورهم، فهل ترى أن تجارهم وأغنيائهم سيبخلون فيما يقدمون في ضيافته من المال؟ سيقدمون له كثيراً من الأموال التي لو عرضت عليه من قبل لما رضي بإفساد هذا المال الكثير في هذه اللحظات القليلة؛ لأن إفساده سيعود بالضرر عليه هو، لكن لو أنهم سمعوا قول الله سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}[التوبة:١١١] فهل ترى أنهم سيقدمون العشر فقط من هذه المبالغ التي يقدمونها في سبيل وجهاء الدنيا وطواغيتها؟ إنه مع الأسف قلّ من ينظر هذه النظرة، وقل من يوجه هذا السؤال إلى نفسه، ولذلك ليس هذا فقط مختصاً بالجانب المالي، بل حين ننظر إلى الوقت ونجد أن عمر الإنسان في الواقع إنما هو أربع وعشرون ساعة فتقسيمه لها إذا راجع نفسه وحاسبها وهو على فراشه حين ينام، وسأل نفسه: كم أنفقتُ من هذه الأربع والعشرين ساعة في مرضات الله سيجد أن ذلك قليل جداً، وأنه كان بالإمكان أن يكون كل ما أنفق في سبيل الله، فإن ذهب يلتمس درهماً للمعاش فلو أخلص النية لله لكان ذلك في سبيل الله؛ حيث أدى حقاً واجباً عليه من نفقةٍ أهلٍ أو قضاء دينٍ أو خدمةٍ أياً كانت، فلو أخلص في ذلك لله لكان إنفاقاً في سبيل الله، وإن جلس وقتاً مع صديقٍ له أو أخ في الله فلو نوى لذلك وقصد به الخير وجعله من التزاور في ذات الله لكان ذلك في سبيل الله، ولكن المشكلة أن الناس سفهاء في الأوقات رغم رشدهم في الأموال، الأوقات تمضي دون حساب، والأموال تحاسب بالدوانق.
كذلك فإن الشخص عندما يقوم على تربية أهل بيته، ويجد نفسه مسئولاً عن زوجةٍ وأولادٍ وإخوةٍ صغارٍ وجيرانٍ، وقد يكون له أثر في بعض الأحيان حتى على قبيلةٍ بكاملها، فيجد أنه كان بالإمكان أن يصلح، وأن يعلم أن هؤلاء رعية له، وهم خصومه يوم القيامة، وعليه أن يربيهم أحسن تربية، وأن يدعوهم إلى الالتزام بمنهج الله سبحانه وتعالى، وأن يحببه إليهم، وأن يسعى على الأقل أن لا يتخذوه سبيلاً إلى المخالفة والمعصية، وما أزال أذكر رجلاً من التجار الذين نحسبهم -والله حسيبهم- من أهل الخير والصلاح، ففي سنة ستٍ وسبعين وتسعمائة وألف للميلاد قام أولاده مع نهضة الجهل والشيوعية التي سادت في بعض ولاياتنا الداخلية، ولكن هذا الرجل الغيور دعا أولاده فقال: اخلعوا الملابس التي تلبسونها والنعال التي تتخذونها وكل ما لديكم، فهو من مالي وكسبي، وأنا الذي بذلت فيه عرق جبيني، ولا يمكن أن يحاسبني الله عليه وأنتم تتصرفون فيه في معصية الله.
فكان هذا الموقف شجاعاً، ومع ذلك لم ينقصه شيئاً في المجتمع ولا عند الناس، وكان في مرضات الله سبحانه وتعالى، ولذلك هدى الله به بعض أولاده للخير، وما زالت فيهم لمسة تربيته إلى وقتنا هذا.
إننا بحاجةٍ إلى أن تكون لدينا هذه الجراءة، فالذي يعاهد الله سبحانه وتعالى على أن يكون جندياً من الجنود لا بد أن يعلم أن الجندية لا بد أن تمر بكثير ٍمن التدريب، فهل تظنُّ أن شخصاً يمكن أن يكون عقيداً دون أن يمر بكثيرٍ من التدريبات، وأن يكون خادماً لكثير ٍمن الجنود والضباط؟! لا يمكن أن يتم هذا، فلذلك لا بد قبل هذا أن يبذل كثيراً من المجاهدة وأن يمر بكثير ٍمن المراحل، ونحن نعلم أن أول الفكرة آخر العمل، فالذي يفكر في نصرة دين الله وهو في بيته أول فكرةٍ تدور في خلده وخاطره هو أن يرجع الناس جميعاً إلى دين الله أفواجاً، وأن يقيموا خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يطبقوا القرآن ويتحاكموا إليه ويلغوا كل القوانين ويدوسوها بأقدامهم، وأن يعلوا راية الجهاد في سبيل الله وتنطلق تحتها الصائفة والشاتية، ولكن هذا هو غاية لا بد قبلها من كثيرٍ من الوسائل والخطوات التي تأتي بالتدريج، فقد لا تعيش أنت إلى ذلك الزمان، ولكن اجعل ما بقي من عمرك في سبيل الله، حاول أن يكون عمرك أنت إعداداً لأجيالٍ من أولادك وأولاد غيرك يسلكون هذا الطريق لعلهم يصلون إلى هناك وإلى ما ترغب فيه، حاول أن تكون مصلحاً إصلاحاً بسيطاً جداً في أسرةٍ خاصة، فهذا البيت من بيوت المسلمين حاول أن تجنبه الآثام والمعاصي الكبار كبائر الإثم والفواحش، حاول أن يكون هذا البيت يتلى فيه كتاب الله، وحاول أن يقام فيه دين الله، وأن يكون فيه الآمر واحداً ويكون البقية مأمورين، وأن يحاولوا الالتزام بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلوكه، حاول أن يتقيدوا بالأذكار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكونوا جميعاً من ذوي النفوس الشفافة المقبلة على الخير التي ليست لديها عبيّة الجاهلية ولا دعاويها ولا تفاخرها بالآباء، وحاول أن تخرج لنا أهل بيتٍ يمكن أن يخرج من أصلابهم قوم يحققون هذه الأمنية التي تتمناها، إذا تجاوزت هذا وكنت سيداً مطاعاً أو كان مشاراً إليك بالبنان فاجعل من بيوت قبيلتك أو بيوت المجتمع التي تؤثر فيه بيوتاً مثل بيتك، فأصلح هذه البيوت حتى تكون نموذجاً في هذا المجتمع، فكيفما تكونوا يولَّ عليكم، فإذا وجدنا من كل أربعين بيتٍ بيتاً واحداً يشع منه نور القرآن، ويستمسك أهله بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويلتزمون في العقائد والعبادات والأخلاق والآداب بسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإنه سيرفع بهم البلاء عن الأمة.
إن ما نجده ونعيشه من هذه الأخطار والابتعاد عن هذا الشرع هو بلاء أصبنا به بسبب ذنوبنا، وإننا إذا أقلعنا عن هذه الذنوب وعدنا فسيرفع الله عنا هذا الوباء، ولذلك قال أحد الدعاة المشاهير: أقيموا دولة الإسلام في نفوسكم يقمها الله في بلادكم.
فإذا بدأ الشخص بنفسه وبيته، ولم يسر مع الهالكين الغاوين، وحاول أن يكبح نفسه وأن يلتزم بالحق وأن يعض عليه بالنواجذ، وأن لا يتصرف تصرفاً إلا وهو يعد الجواب عنه بين يدي الله تعالى، وحاول أن يكون مصلحاً لكل من له عليه أمر أو يمكن أن يؤثر فيه فإن المجتمع سيصلح بكامله، ويرفع عنه هذا العقاب الذي قد ساده، إذا وجدنا من يربي أولاده على أن يكونوا من حملة كتاب الله في صباهم، ومن المحبين لسنة رسول صلى الله عليه وسلم، ومن الراغبين في السؤال عما يجهلون من الدين، ومن الذين يتحلون بالأخلاق الإسلامية الحميدة، ومن الذين يحبون هذه المساجد التي يشع منها هذا النور وتنطلق منها هذه الدعوة فإننا نكون حينئذٍ قد تحقق لدينا كسب كبير، وعملنا للإسلام عملاً جاداً، وبهذا تخرج الحشود من المسلمين وكل شخص منها عاقد العزم على أن يأتينا بأفرادٍ، فإذا مات لم نخسر مكانه في المسجد، فننظر إلى مكانه في الصف الأول أو في صفٍ من الصفوف فنجد من يخلفه فيه من ولده، سواءٌ أكان ولداً طينياً أم ولداً دينياً، فالطيني ولده لصلبه، والديني من أثر فيه ودعاه إلى الحق، وهداه بما تحمله من الهداية وبما آتاه الله تعالى من العلم، وبذلك يزداد العدد ويكثر السواد، وتحصل الهيبة المطلوبة في نصرة الدين، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يأمر المسلمين أن يُخرجوا إلى صلاة العيد العواتقَ والحيَّضَ ورباتِ الخدور يشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين ويشهدن دعوة المؤمنين كان بهذا يرشد إلى أهمية اجتماع المسلمين واحتشادهم في حشدٍ عظيم يغيظ أعداء الله ويحقق نصرة دين الله تعالى ويعلي كلمته.