[الإيثار من أبرز صفات الجيل الأول]
إن ذلك الجيل قد رباهم الله وهيأ لهم الظروف؛ ليخلعوا أمر الجاهلية بالكلية، فأنتم تعلمون حرص أهل الجاهلية وبخلهم، وأن كل إنسان منهم لا يمكن أن ينذر أحداً بخير، لكن ذلك الجيل الفاضل عندما حاصرهم أهل الجاهلية وحاربوهم وحبسوهم في الشعب لا يبيعون إليهم ولا يشترون منهم، ولا ينكحون منهم ولا ينكحون إليهم ثلاث سنين، جعل الله لهم هذه البيئة الصالحة لمقاطعتهم الجاهلية، حتى تتحقق فيهم قيم الإسلام، فلولا حصار الشعب لم يستطع أولئك القوم أن يحققوا قيم الإسلام تماماً كما هي؛ فمثل الإيثار الذي تحقق بينهم إذ ذاك إذا سمعه أحد الآن عجب له.
تصور أن عدداً كبيراً من الفقراء الذين لا يملك أحد منهم ثوباً ولا لقمة عيش، وهم في حرب يحاصرهم الأقربون والأبعدون، ولا يستطيع أحد منهم أن يخرج لحاجة، يجد أحدهم كساء أو جبة مدفوناً في الأرض فينفضه فيأتي به أصحابه، ولا يستأثر به دونهم، ويجد أحدهم جلداً يريد أكله وهو في غاية الجوع فيغسله ويأتي به أصحابه؛ ليشتووه ويأكلوه جميعاً.
إنه الإيثار الذي أثنى الله به على الأنصار فيما بعد! يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لقد رأيتنا في الشعب مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد اشتد بنا الجوع فخرجت لبعض حاجتي فوقعت يدي على شيء، فإذا هو جلد فأخذته فأتيت به أصحابي، فغسلناه وشويناه وأكلناه.
ويقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه: (لقد رأيتنا بالشعب مع النبي صلى الله عليه وسلم وما منا أحد إلا وهو يعصب الحجر على بطنه من الجوع، ولقد خرجت ذات ليلة لقضاء بعض حاجتي فوقعت يدي على شيء، فإذا هو جبة فنفضتها فأتيت بها أصحابي، فاقتسمتها أنا وسعد بن مالك اتزرت بنصفها واتزر بنصفها، ثم والله الذي لا إله غيره لقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار).
بعد هذا الأذى وهذا الحصار المطلق فتح الله لهم أبواب الفتح، واستجابت لهم الأمم؛ لصدقهم مع الله سبحانه وتعالى، فنصرهم بالرعب وهيأ لهم الأسباب.
فأولئك القوم الذين هم بهذا القدر من القلة، كما وصفهم الله تعالى في قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} [الأنفال:٢٦]، آواهم الله ومكن لهم في الأرض، وأزاح عروش الملوك أمامهم، وجعل سيوفهم علامة على الرعب في وجوه الأمم كلها، ففتحت الأرض أمامهم، ولم يستطع ملك من الملوك ولا قائد من القادة أن يقف في وجه أضعف أولئك القوم.
إنهم نصروا الله سبحانه وتعالى وصدقوا معه، فنصرهم الله كما تعهد بذلك، فقد قال في كتابه: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:٤٠] , وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:١٠٥ - ١٠٦].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:٧].
وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:٢١].
فكتب الله لهم الغلبة والعزة والتمكين.