للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[القسم الثالث: الخشوع في العبادة]

القسم الثالث من أعمال القلب: الخشوع، وقد عرفه ابن أسد بأنه الخوف باستشعار الوقوف بين يدي الخالق، والخوف أي: ما يعتري الإنسان من الخوف والمذلة عندما يستشعر الوقوف بين يدي الخالق، وأنه يكلم الله كفاحاً دون ترجمان، وأن الله يجيبه في كلامه، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢] تذكر أن الله يجيبه فيقول: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:٣] تذكر أن الله يجيبه فيقول: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:٤] تذكر أن الله يجيبه فيقول: مجدني عبدي، وفي رواية: فوض إلي عبدي، هؤلاء لي ولعبدي ما سأل.

وهكذا حتى تنتهي الصلاة، فكل لفظ يعلم أن الله سبحانه وتعالى يسمعه، وكل خطرة تخطر في القلب يعلم أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليها، وهو: {أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:١٦]، وأنه: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:٧]، ومن هنا فهو يخاف الخوف الشديد بهيبة هذا المقام، فأنتم تعلمون أن أحدكم لو كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسلم عليه ويكلمه، فلا شك أنه سيحضر ويخاف، كما وصف ذلك كعب بن زهير رضي الله عنه عندما وضع يمينه في كف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وقال كل خليل كنت آمله لا ألهينك إني عنك مشغول فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم فكل ما قدر الرحمن مفعول كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول وقد أتيت رسول الله معتذراً والعذر عند رسول الله مقبول مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل لا تأخذني بأقوال الوشاة فلم أذنب وإن كثرت فيَّ الأقاويل إلى أن يقول: حتى وضعت يميني لا أنازعه في كف ذي نقمات قيله القيل لذاك أهيب عندي إذ أكلمه وقيل إنك مأخوذ ومسئول من ضيغم من ليوث الأسد مسكنه من بطن عثر غيل دونه غيل يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما لحم من القوم معفور الخراديل فهيبته للنبي صلى الله عليه وسلم أشد من هيبة الإنسان لأسد يقابله، وقد عرف مكانه من قبل، وعرف أنه لا يجرؤ أحد أن يدخل مكانه، وتخاف منه السباع، فكيف بمن دونها؟! منه وتظل سباع الجو ضامدة ولا تمشى بواديه الأراجيل فإذا كان الإنسان هكذا بهيبته للنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف ستكون هيبته لديان السماوات والأرض الذي خلق النبي صلى الله عليه وسلم وشرفه وكرمه، وهو الذي أرسله؟! فلابد أن يحضر في بال الإنسان أنه يكلم الله كفاحاً دون ترجمان، وما يعتريه حينئذ من قشعريرة الجسم والارتعاشة في البدن، وسيلان الدموع، وحركة في القلب، هو الذي يمثل بالخشوع، فالخشوع إذاً يعرف بهذه الأمور كلها، فيظهر على البدن بقشعريرته وانتفاضته وبالدموع، وكذلك بالخوف الشديد، وبارتعاش القلب، فكل هذه آثار من آثار الخشوع، وإنما يحصل ذلك للإنسان عند تمام إيمانه، فمن لم يكن مؤمناً بأنه يكلم الله كفاحاً، وأنه معه، وأن الله سبحانه وتعالى ينظر إليه وهو في صلاته، لم يكن لينال هذه المنزلة، ولم يكن ليحضر هذا التشريف، بل هو محجوب حينئذ مطرود عن جناب الله سبحانه وتعالى، فإنما ينظر الله سبحانه وتعالى إلى من كان متحلياً بما أمره به، متخلياً عما نهاه عنه، فأولئك هم الذين يستحقون هذا المكان الرفيع.