وهذا الصيام حكم مشروعيته كثيرة متعددة، ومنها التشبه بالملائكة الكرام الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فليست لهم ساعة للأكل ولا ساعة للشرب، ولا ساعة للنوم ولا ساعة للراحة، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ونحن ننافسهم ونسعى للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما يتقربون به إليه.
فمن هنا شرع الله لنا الصيام وأثاب عليه بالثواب الجزيل الذي يقارن عمل من مضى بل يزيد على ذلك، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مقارنة هذه الأمة والأمتين السابقتين -اليهود والنصارى- كرجل دعا من يعمل له إلى نصف النهار على قيراط واحد، فعمل اليهود إلى نصف النهار -إلى صلاة الظهر-، وهذا العمل الطويل نالوا عليه قيراطاً واحداً، ثم دعا من يعمل له من الظهر إلى العصر على قيراط، فعمل النصارى مابين الظهر والعصر واستحقوا قيراطاً واحداً، ثم دعا من يعمل له من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين فجاءت هذه الأمة، فغضب اليهود النصارى لأن الأجر قد ضوعف، فأخبرهم ربنا سبحانه وتعالى أن هذا فضله يختص به من يشاء.
فهذه الأمة شرفها الله تعالى بتضعيف الحسنات وبعدم تضعيف السيئات، ومن هنا فإنه:(من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله)؛ لأن رمضان في الغالب ثلاثون يوماً، والستة أيام عليها تكون ستة وثلاثين يوماً، وإذا ضربتها في عشرة -لأن الحسنة بعشر أمثالها- تكون ثلاثمائة وستين يوماً، وهي عدد أيام السنة، وبذلك يكون الإنسان كأنما صام السنة بكاملها.
ومن حكمة الصيام كذلك أن يحس الأغنياء بمرارة الحرمان، فُيرحَم الفقراء، ولهذا يقول الشاعر: لعمري لقد عضني الجوع عضةً فآليت أن لا أمنع الدهر جائعاً وكذلك فإن من حكم هذا الصيام أنه مخفف لشهوات النفوس كابح لها مضيق للعروق على الشيطان، فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فإذا ضيق عليه العروق بالصيام انشغل عنه، وقد أعاننا الله في رمضان بتصفيد المردة وبفتح أبواب الجنة وإيصاد أبواب النار، وبتنزل الرحمات، وجعله شهر عبادة، وجعل فيه ليلة هي ليلة القدر خير من ألف شهر يزداد بها عمر الإنسان بثلاث وثمانين سنة وزيادة؛ لأن فائدة العمر التقرب إلى الله سبحانه وتعالى وعبادته، والذي يقوم هذه الليلة في السنة يزداد عمره على الأقل بثلاث وثمانين سنة وبضعة أشهر، فيكون كأنما عاش هذه الفترة بليلة واحدة.
وكذلك فيه العشر الأواخر التي هي أفضله، وقد شرع الله سبحانه وتعالى صيامه وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه، ورتب على ذلك مغفرة الذنوب، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وفيهما عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وفيهما عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال:(من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
وكذلك فهو شهر الجود والبذل، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما:(كان رسول الله صلى الله عليه سلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يلقاه في كل ليلة من ليالي رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).