للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإيجابية والسلبية في حياة المؤمن]

من غير المقبول أن يكون المؤمن سلبياً لا أثر له في هذه الحياة، يخرج منها كما دخلها، فإذا حمل على الرقاب إلى قبره لا يتذكر الناس أن شخصاً كان يقف في الصف يصلي معهم في المسجد ويكثر سواد المسلمين، ولا يتذكرون أنه كان يقول كلمة الحق يقصد بها وجه الله سبحانه وتعالى، ولا يتذكرون أنه كان من الذين ينكئون أعداء الله تعالى بما يملكون، ولعلك تتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو مريض فقال: (اللهم! اشف عبدك ينكأ لك عدواً، أو يمشي لك إلى صلاة)، وكثير من المرضى اليوم لا يتذكر الذين يعرفونهم أنهم سينكئون عدواً لله أو يمشون إلى صلاة، بل هم غثاء كغثاء السيل، إن عاشوا فليس عيشهم لدين الله، وإن ماتوا فلم ينتقص أهل دين الله بشيء، ما أكثر هؤلاء وما أقل أولئك الذين يقال فيهم ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في سعد بن أبي وقاص.

إن على المؤمن أن يجعل من حياته منهاجاً وبرنامجاً واضحاً ينكأ فيه أعداء الله، ويوالي فيه أولياء الله، ويمشي فيه إلى الصلاة، ويحقق فيه جهاده لنفسه وصبره ومصابرته على الحق، ويتحقق فيه بالأخلاق الحميدة والآداب النبيلة، فإذا مات مات على الطريق الصحيح، وإن عاش فإن الله يكتب له العزة على ذلك، وأما من لم يرفع بهذا رأساً ولم يسر عليه فسواءٌ عاش أو مات فإنه كما قال القائل: فستة رهطٍ به خمسة وخمسة رهطٍ به أربعة إن على المؤمن أن يكون إيجابياً في حياته، وأن يكون مؤثراً فيها، وأن ينظر إلى الذين يحتذي بهم فيحاول أن يسد مسدهم لأمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ينظر إلى أقوامٍ يقومون بالحق ولا تأخذهم في الله لومة لائم، أو يجاهدون في سبيل الله، أو ينصحون الناس ويدعونهم إلى الخير، أو يؤمونهم أو يعلمونهم الخير، ويعلم أن حياتهم غير دائمة، وأنهم قد أدوا ما عليهم، فيحاول أن يلتحق بهم وأن يسد مسد أحدهم لهذه الأمة، حتى لا يبقى مكانه فراغاً لو اخترم من بين صفوف هذه الأمة، يشعر بأن حياته هذه التي لا يدري متى طولها إلا الله سبحانه وتعالى أشرف أحوالها أن تكون كحياة الغلام الذي قال للملك حين أراد قتله وبذل في ذلك كل ما يستطيعه فلم ينجح قال: إذا أردت قتلي فاجمع الناس في صعيدٍ واحد، ثم انصبني غرضاً، وأخرج سهماً من كنانتك واجعله في قوسك وقل: (بسم الله رب الغلام) وارمني به فحينئذٍ سأموت.

ففعل الملك ذلك وجمع الناس في صعيدٍ واحد وقال: (بسم الله رب الغلام) ورماه، فمات الغلام، فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام.

فكان موت هذا الغلام فتحاً لدين الله.

نحن جميعاً نعلم أننا سنموت، لكن هل يكون موتنا فتحاً لدين الله؟ وهل تكون حياتنا كذلك؟ ونحن نقرأ قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:١٦٢ - ١٦٣]، فهل نحقق هذا في أنفسنا، أو نكون من الذين تلعنهم هذه الآية حين يقرؤونها؟ وهل حققنا في أنفسنا أن حياتنا ويقظتنا ومنامنا وقيامنا ودعاءنا وخطواتنا وأموالنا وكل أمورنا حتى الموت في سبيل الله؟ إننا نقرأ سورة يس في قصة الرجل الداعي إلى الله سبحانه وتعالى، فبعد أن دخل الجنة أراد أن يكون داعياً بعد الموت، كان داعياً في حال الحياة ولكنه لم يرض بذلك بل قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:٢٦ - ٢٧]، ليكون داعياً بعد الموت، وقص الله عنه ذلك وجعله يتلى في كتاب الله إلى أن يرفعه الله، فنحن جميعاً نشهد لهذا الرجل حين نقرأ كلام ربنا أنه كان داعيةً في حياته ثم كان داعيةً بعد موته حين قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:٢٦ - ٢٧] لا يريد بهذا أن يذكر في الدنيا فهو قد قدم إلى ما قدّم ورأى مصيره الحتمي، وعلم أن الدنيا لا تساوي شيئاً، وقد أقسم الرسول صلى الله عليه وسلم بالله الذي لا إله إلا هو ل (موضع سوط أحدكم في الجنة خير له من الدنيا وما فيها)، وهو قد دخل الجنة، لكنه يريد بهذا الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وليلتزم الناس بمنهجه، وليعلموا أنه لو قتل على هذا المنهج فإنه لن يذوق من مرارة الموت إلا قدر القرصة كما يقرص الشخص، وأنه بذلك يرفع عنه كل الأذى، وأنه قد انطلق إلى مرضات الله.

إننا جميعاً مطالبون بأن نحقق من حياتنا حياةً لله سبحانه وتعالى، ومن موتنا موتاً لله سبحانه وتعالى، كل شخصٍ منا إذا فكر في الموت ووعظه الواعظون بالموت تذكر أنه ربما مات على سرير المرض في أحد المستشفيات، أو مات على فراشه في بيته، أو مات في حادث سيارةٍ أو غير ذلك من الموتات المألوفة لدينا، ولكنَّ قلةً منا هم الذين يفكرون في أن تكون موتهم لله سبحانه وتعالى، ولا يريدون أن يموتوا على فرشهم كما يموت العير، وبذلك يحققون قول خالد بن الوليد رضي الله عنه: (لا وألت نفس الجبان، إنه لم يبق من جسمي مغرس إبرةٍ إلا وفيه ضربة بسيفٍ أو طعنة برمحٍ أو رشقة بنبلٍ، وها أنا أموت على فراشي كما يموت العير).

إن التعرض للمهالك لا يقرب الأجل، فالأجل مكتوب ولكنه يزيد في الأجر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كفى ببارقة السيوف) أي: شاهداً.

وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن كل أحدٍ ينقطع عمله بموته إلا الشهيد في سبيل الله، فإنه يجرى عليه عمله كاملاً كما كان يفعله في حياته لا ينقطع عنه، وبذلك يكون الشهيد أطول الناس عمراً، فـ حمزة بن عبد المطلب -مثلاً- وإخوانه الذين قتلوا يوم أحدٍ قد قال فيهم المنافقون: إن هؤلاء قد خسروا أنفسهم وبادروا إلى القتل وماتوا، وكان الأولى بهم أن يدخلوا في الحصون ويغلقوها عليهم، وبذلك ينجون من القتل.

لكن أعمار المنافقين قد انقطعت وباتوا في حصونهم، فخرجوا إلى المقابر، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران:١٥٦ - ١٥٨]، لكن هؤلاء الذين قتلوا يوم أحدٍ ما زالت أعمارهم إلى وقتنا هذا، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:١٦٩ - ١٧٠] كل أولئك الذين ماتوا في غير الشهادة قد انقطعت أعمالهم وختم عليها، وهؤلاء الذين ماتوا بالشهادة استمرت أعمالهم وليس فيها رياء ولا سمعة، ولا يمكن أن ينقص الشيطان منها شيئا، من كان منهم يقوم الليل ويصوم النهار ما زال عمله كذلك، يكتب له في الصباح نية الصيام، ويكتب له في المساء فرحة الإفطار، ويكتب له في الليل قيام الليل دون أن يتأثر ذلك برياءٍ ولا بسمعةٍ، ودون أن ينتقص الشيطان منه شيئا، وكذلك من مات مرابطاً في سبيل الله، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه (يأمن الفتان)، وأن (رباط ليلةٍ في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها)، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي شرفه الله بكل ما شرفه به يتمنى أن يقتل في سبيل الله ثم يحيا فيقاتل ثم يقتل ثم يحيا فيقاتل فيقتل، فيقول: (لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سريةٍ تغزوا في سبيل الله، ولقد وددت لو أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل)، وهو رسول الله الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وجعل منزلته أعظم من كل المنازل عند الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك يتمنى هذا.

إننا -ونحن نعلم هذا وندين الله به ونحققه- لا يطلب منا ما لا نطيقه وما لا نستطيعه، فالأمر سهل بسيط بين أيدينا، وهو أن يبدأُ المرء بإصلاح نفسه بتعلم ما أمره الله بتعلمه، ويجاهد نفسه على العمل بذلك، ويجاهد نفسه على الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ويجاهد نفسه على الصبر على الأذى في سبيل ذلك، وإذا كان عاجزاً عن جهاد الكافرين والمنافقين بيده جاهدهم بلسانه وماله، وأيضاً أبغضهم بقلبه، فيحقق المطلوب منه، وتكون له حجة وعهد عند الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن هذا من الأمور البسيطة التي لا يمكن أن يعتذر الشخص بعجزه عنها، فأنت عندما تخطو خطواتك إلى المسجد فتجلس فيه لتتعلم علماً فقد جاهدت في سبيل الله إذا نويت ذلك، ولهذا أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عمرو بن حزم أنه قال: (من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ورجع غانما)، وكذلك الأعمال التي تقوم بها في حياتك، ففي كثيرٍ من الأحيان يكون نصفها من الأعمال الصالحات الباقيات، ولكن عليك أن تنوي لها الخير وأن تخلص فيها النية لله، فتحاول أن تكون مخلصاً في تصرفاتك حتى في ثنايا العمل، فقد يجلس الشخص مجلساً لم يصلح نيته قبله، ولكنه حين يتذكر في أثنائه نيته ويراجعها يكتب له بقية مجلسه ولا يفوته، وبذلك لا يخسر كل شيء.

إن من سار في بداية خطواته إلى المسجد أو إلى العلم أو إلى تكثير سواد المسلمين أو حضور درسٍ أو محاضرة أو بيانٍ إن نوى ذلك كانت الحصى تشهد له، ولا يرفع خطوةً إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها سيئة وكتبت له بها حسنة