كذلك من آثار الخشية: أنها سبب لاستجابة الدعاء، فمن كان من أهل خشية الله، فقد تعرف إلى الله في الرخاء، فسيعرفه الله في الشدة، فإذا أمسك جوارحه عن معصية الله يسر الله جوارحه للطاعة، فجعل سمعه تبعاً لأمر الله، وبصره تبعاً لأمر الله، ويده تبعاً لأمر الله، ورجله تبعاً لأمر الله، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال:(ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
فصوته بالمسألة والدعاء غير مجهول عند الله؛ فلذلك من تعرف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدة، فإذا رفع يديه إلى الله استجاب دعاءه، وإذا عرض فبمجرد التعريض يجيب الله دعائه.
ومنهم من يعرض بالدعاء كأيوب عليه السلام، فقد مكث في الأذى ثماني عشرة سنة، وقد أصيب بأنواع البلاء، وامتحنه الله تعالى بذلك محبة له، فالله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً ابتلاه:(وأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)، وكان من شدة بلائه أنه لا يستطيع التصرف في شيء من بدنه، وكانت زوجته برة به، فكانت تنفق عليه وتعالجه، فلما نفذ ما معهم من المال لم يحل لها أن تسأل الناس؛ لأنه نبي معصوم فلا يحل له السؤال ولا لأهل بيته، فبحثت عن العمل فعملت حتى إذا لم تجد عملاً باعت قرون رأسها، فكانت تقطع قرناً فتبيعه، فتغذيه بثمنه، ثم تقطع قرناً آخر، حتى نفذ ما نبت من الشعر من رأسها.
فلما رأى أيوب ذلك، وقد جاءه رجلان كانا من أقاربه، ومن أخص الناس به، فقال أحدهما: لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من أهل الأرض! فقال الآخر: ولم؟ فقال: قد ابتلاه الله ثماني عشرة سنة ولم يرفع عنه البلاء، فلما ذهبا مد أيوب يده إلى الله تعالى فقال: ربّ {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأنبياء:٨٣]، وكانت زوجته إذ ذاك خرجت، وتركته قريباً من مزبلة لبني إسرائيل، فلما عادت إلى أيوب وقد رفع الله عنه البلاء، وأمره الله أن يركض برجله في الموضع الذي هو فيه، فخرج له ماء عذب؛ فاغتسل وشرب منه، وزال عنه البلاء بالكلية، وأنزل الله له لباساً من لباس الجنة فلبسه فتغيرت حالته وصورته، فلما رأته لم تعرفه، فقالت: أين الرجل المبتلى الذي كان هنا، لعله تخطفته الكلاب، فقال: أنا أيوب، قد استجاب الله لي ورفع عني البلاء!! لذلك قد عرَّض أيوب بالدعاء بعد هذا الصبر الطويل على البلاء ولم يسأل رفعه؛ لعلمه بالأجر المترتب عليه، حتى إذا نفذت الأسباب كلها ولم يبق أي سبب حتى شعر رأس امرأته، قال: رب {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأنبياء:٨٣] فلم يسأله حتى أن يرفع عنه الضر، بل عرض له فاستجاب الله ذلك ورفع عنه البلاء.