[أقسام التربية]
وعلى هذا فالتربية ثلاثة أقسام: تربية عقلية: وهي بزيادة العلم؛ لأن العقل مبناه على العلم، فكلما ازداد الإنسان علماً ازداد عقلاً، وهذا يشمل علوم الدين وعلوم الدنيا.
القسم الثاني: التربية البدنية، وهي بتقوية البدن وتعويده على المهارات والخبرات المختلفة، كمهارات العدو والجري، ومهارة السباحة، ومهارة ركوب الخيل، ومهارة سياقة السيارة، ومهارة القفز، ومهارة حمل الأثقال، ومهارة الكتابة، وغير ذلك من المهارات التي هي من التربية البدنية.
ثم النوع الثالث من أنواع التربية: التربية الروحية، والمقصود بها تزكية النفوس، وتطهير الأخلاق بتهذيبها، والتخلي عن الصفات الذميمة، والتحلي بالصفات الحميدة، ولا يكون ذلك إلا وفق المنهج الذي شرع الله لعباده.
فهذه الأقسام الثلاثة هي قابليات الإنسان التي يمكن تطويرها، فيمكن أن يطور الإنسان من الناحية العلمية: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:٧٨].
فكل يوم يمكن أن يزداد الإنسان علماً، ولهذا أرشد الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى طلب الازدياد من العلم، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:١١٤] وكذلك قوة البدن ومهاراته، فكل يوم بالإمكان أن يزداد الإنسان مهارة لم تكن لديه، فتشغيل أي جهاز من الأجهزة -كتشغيل المسجل أو تشغيل جهاز الكمبيوتر أو غير ذلك- كلها مهارات، بالإمكان أن يستفيدها الإنسان في أي يوم من أيام حياته.
ومثل ذلك: المهارات النفسية، فمهارة العبادة والأدب مع الله سبحانه وتعالى، ومهارة الإخلاص في العمل الصالح، ومهارة الأنس بالله، والتوكل عليه وخوفه ورجائه، وكذلك مهارة التوبة والإنابة إلى الله، كلها مهارات روحية بالإمكان أن يكتسبها الإنسان، وما أحوج الإنسان إلى اكتسابها.
إن هذه التربية عظيمة تغير الإنسان عن حاله، فبعد أن كان الإنسان جاهلاً أمياً، وبعد أن كان ضعيفاً، وبعد أن كان سيء الخلق، ينتقل بواسطة التربية إلى أعلى كمال ممكن، فبعد الجهل المطلق ينتقل الإنسان إلى مرتبة الاجتهاد أو مرتبة التوقيع عن رب العالمين، وبعد مرتبة الضعف -الذي لا يستطيع الإنسان به إلا مص الثدي- ينتقل الإنسان إلى مقاتل ماهر، وشجاع لا يرده أي خوف، ولا يثنيه أي إرهاق، وكذلك بعد نشأة الإنسان السيئة التي فيها تعويد النفس على ما تشتهي وعدم الحيلولة بينها وبين ذلك، وضعف الحيلة في الوصول إلى ما يشتهيه الإنسان، كالصبي إذا منع شيئاً ليس لديه حيلة إلا البكاء، فهذا الضعف الشديد بعده ينتقل إلى إنسان قوي الشخصية، لا يتضعضع أمام الوسائط، ولا يخضع للإرهاب والتهديد، فيكون متصلاً بالله سبحانه وتعالى، متقوياً بقوته التي لا حدود لها، وبذلك يتغير حاله بالكلية.
بهذا نعلم أن هذه التربية ليست عملية مؤقتة بزمن محدد، كما يتوهمه بعض الناس، فقول العرب: العوان لا تعلم الخمرة، المقصود بذلك: أصل التعليم لا زيادة المهارة، فهي لا تعلم الخبرة؛ لأنها قد تعلمتها، لكن يمكن أن تزداد مهارة فيها، فما من شيء يتعلمه الإنسان إلا وهو قابل للتطوير والزيادة، ولهذا أدركنا كبار السن -وبعضهم من أهل العلم- كل يوم يحاولون زيادة مهارات أداء سنن الصلاة، فيركع الإنسان أمام الناس ليروه هيئة الركوع، ويسجد أمامهم ليقوموا له النقص الذي لديه بهيئة السجود، ويتوضأ أمامهم ليرى مهارات الوضوء، وهكذا.
فما من مهارة يتعلمها الإنسان إلا وهي قابلة للتطوير والزيادة، حتى أن أنبياء الله الذين أوصلهم الله سبحانه وتعالى إلى درجات الكمال العليا الممكنة للبشر، ما من أحد إلا وهو يحرص على الازدياد من التربية، فهذا عيسى بن مريم عليه السلام مر مع الحواريين في زقاق ضيق، فاستقبله خنزير، فقال له عيسى: انفذ بسلام، فقيل: يا نبي الله! أتقول هذا لخنزير؟! قال: أردت أن أعود لساني قول الخير.
وكذلك مر هو والحواريون على جيفة كلب قد أنتن، فقال الحواريون: ما أنتن رائحته، فقال عيسى: ما أحسن بياض أسنانه؟ فقيل له في ذلك، فقال: ذكرته بأحسن ما فيه؟ وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقوم الليل فيطيل القيام حتى تفطرت قدماه، فقالت له عائشة: (أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً)، إنه يريد زيادة الشكر، ويحرص على ذلك، وهذا الحرص هو الذي يقتضي للإنسان السمو وعلو الهمة، بحيث لا يرضى بالمراتب الدنية، يريد السمو إلى أن يكون منتهاه الفردوس الأعلى من الجنة تحت عرش الرحمن، فلا يرضى بأي شيء أقل من ذلك ولا دونه، ولهذا يروى أن النابغة الجعدي رضي الله عنه حين أنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قصيدته الرائية بلغ فيها قوله: بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا قال: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة، قال: إلى الجنة إن شاء الله.
وكذلك العلماء الكبار الذين اشتهروا بكثرة ما حووه من العلم، لم يقصروا في الطلب يوماً من أيام حياتهم، فتسمعون عن محمد بن مالك الطائي الجياني الأندلسي الدمشقي إمام أهل العربية، الذي ألف الكتب الكثيرة في خدمة لسان العرب، فمنها: الخلاصة الألفية المشهورة السائرة، والكافية، وتسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، والفوائد كذلك، وعدة الحافظ وعمدة اللافظ، والاعتضاد بين ظاهر الظاء والضاد، والواو والياء، والإعلام بتثليث الكلام، والتوضيح لحل مشكلات الجامع الصحيح، وشروح هذه الكتب كلها وغير هذا من الكتب الكثيرة، مع ذلك تعلم يوم موته ثمانية شواهد من ولده، وهو في اللحظات الأخيرة.
وهذا الإمام مالك بن أنس على جلالة قدره في العلم وكبر سنه فقد عاش ثلاثاً وتسعين سنة، ومع ذلك ففي آخر عمره سئل عن تخليل الأصابع في الوضوء، فقال: لا أحفظ فيه شيئاً، فلما انفضت الحلقة جلس إليه عبد الله بن وهب وهو أحد طلابه، فقال: حدثني الليث بن سعد عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل أصابعه في الوضوء)، فحفظ مالك هذا الحديث فلما عادت الحلقة إلى مكانها، قال: سألتموني بالأمس عن تخليل الأصابع في الوضوء، فقلت لكم: لا أحفظ فيه شيئاً، وقد حدثني عبد الله بن وهب هذا قال: حدثنا الليث بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل الأصابع في الوضوء).
فكل يوم هم في شغف من الازدياد من العلم، لا يقصرون في ذلك، ويطلبونه على كل الأحيان، ولذلك بلغوا ما بلغوا من المنازل العلية، فكل من شعر بأنه استغنى عن التربية، ووصل إلى حد لا يحتاج فيه إلى الزيادة، فمعناه أنه بدأ في النقص، ولهذا حين أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣] بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سمع هذه الآية، فقالوا: وما يبكيك يا ابن الخطاب؟ قال: ما من شيء يتم إلا نقص، فالدين أتمه الله، فخشي عمر أن يكون ذلك بداية النقص، وأول نقص فيه موت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك موت الخلفاء الراشدين، ثم لا يزال الدين ينقص، كلما نقضت عروة تمسك الناس بالتي تليها، فأول ذلك الحكم وآخره الصلاة.