إن الله سبحانه وتعالى ضمن لآدم في الجنة أربعة أمور، وهي أصول المنافع فقال تعالى:{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}[طه:١١٨ - ١١٩]، وهذه أربعة أمور من ضروريات البشر.
فأولاً قال:(إن لك أن لا تجوع فيها)، فهذا يسد ضرورة الطعام، وثانياً قال:(ولا تعرى)، وهذا يسد ضرورة اللباس، وثالثاً قال:(وإنك لا تظمأ فيها)، وهذا يسد ضرورة المشرب، ورابعاً قال:(ولا تضحى) أي: لا تبرز للشمس، فهذا يسد ضرورة السكن، وهذه الأربع هي أمهات ضروريات البشر مطلقاً.
وبعد هبوط آدم إلى هذه الأرض وخروجه من الجنة هو وحواء، بعد أن بدت لهما سوآتهما، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}[الأعراف:٢٢] أضيف إليها حاجة الإنسان إلى جنسه؛ ليكون ذلك مدعاة لاستمرار النسل، فكانت ضرورة خامسة لأهل الأرض.
هذه هي الضرورات، وما وراءها ينقسم إلى قسمين: حاجيات وتحسينيات (تكميليات)، وكل ذلك يحتاج إليه البشر؛ لكن حاجتهم إلى الضروريات أعظم من حاجتهم إلى الحاجيات، وحاجتهم إلى الحاجيات أعظم من حاجتهم إلى التكميليات.
ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى جعل الضروريات ميسرة مهيأة في جميع الأزمنة منذ عهد آدم إلى زماننا هذا، فالهواء -الأوكسجين- الذي يتنفسه الناس على الأرض ميسر سهل، ولو أنه كان مثل المعادن النفيسة التي تحتاج إليها البشرية، لكان محتاجاً إلى طاقة وبذل وجهد، فيموت عدد كبير من الناس ممن لا يستطيعون الوصول إلى تلك الطاقة ولا إلى ذلك الضروري، ولكن الله علم حاجة الجميع إليه فيسره لهم فوق الأرض.
وكذلك الحاجة إلى الماء، جعل الله على الأرض مسطحات مائية تكفي لسقي الناس، وجعل في الصحاري طبقات من الأرض تمسك المياه التي تدخل في أجواف الأرض وتصفيها، وجعل الجبال ذات طاقة لتصفية المياه، وإخراج أملاحها، وإخراج ما فيها من المضار؛ لتكون مهيأة لشرب البشرية، وكذلك أنبت على هذه الأرض من أنواع الأشجار والثمرات والخيرات ما جعل البشرية وغيرها من الحيوانات التي تعيش على هذه الأرض مستغنية بذلك حتى قبل الاختراعات الحديثة، فهذه الضروريات لم تكن محتاجة إلى كبير تفكير ولا إلى كبير اختراع، منذ بدأت البشرية وهي تعرف كيف تبني من الحجارة بيتاً يكنها من الحر والبرد، وهي تعرف كيف تحرث الأرض وتزرع فيها، وهي تعرف كيف تتناول الماء وتستخرجه من الأرض.
فهذه ضرورات يسرها الله، ولا شك أن كثيراً منكم قد يتعجب إذا علم أن الماء مصنف في جنس المعادن، وهو كغيره من المعادن النفيسة؛ لكنه ما وجد في مكان في أعماق الأرض إلا وقد اكتشفته البشرية فيما مضى، والمعادن الأخرى تحيط به من كل جانب لا ينظر إليها أحد ولا يكتشفها، فكثير من آبائنا وأسلافنا، كانوا يكتشفون المياه في أعماق الأرض، ويعرفون أماكن وجودها، وكان يحيط بهذه المياه أنواع المعادن النفيسة ولا يطلعون عليها، ولا يستطيعون الوصول إليها.
وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى حين علم حاجة الناس إلى اللحوم وإلى الألبان ومشتقاتها، أنزل ثمانية أزواج من الأنعام من الجنة، فكانت أصول الأنعام في هذه الأرض، ثم أنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، فكان أصل الصناعات كلها، وعلم آدم الزراعة فكان ذلك أصل الفلاحة والزراعة كلها، فكانت هذه الأمور كفيلة بضمان البقاء والعيش على سطح هذه الأرض، ولله تعالى من الكواكب الأخرى -في مجموعتنا الشمسية وفي غيرها- ما هو أضعاف الأرض، ولم يجعل عليها هذه الأرزاق، ولم يضع فيها هذه البركات.