الصفة السادسة من هذه الصفات: الصبر، فلابد أن يكون الداعية صبوراً على الأذى، وأن يعلم أن هذا الطريق طريق محفوف بالمكاره، وأن الأذى فيه مضمون، لكن الأذى معلمة من معالم الطريق يعرف به أنه سلك طريق الحق.
والأذى للسالكين لطريق الحق لله فيه حِكم عظيمة، فمنها: أولاً: أن الله سبحانه وتعالى يصرف به الذين لا يرتضي خدمتهم للدين، كما قال تعالى:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً}[الأعراف:١٤٦]، وقال تعالى:{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}[الذاريات:٩]، وقال تعالى:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}[التوبة:٤٦]، وقال تعالى:{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الحج:١١]، فهذه الحكمة الأولى.
ثانياً: أن هذا الأذى يعرف به السالكون لطريق الحق أنهم ما ضيعوا، وأنهم سلكوا طريق الأنبياء، فمن سلك طريق الأنبياء ولم يؤذَ، ولم يجد ما وجده الأنبياء على هذا الطريق، فليعلم أنه قد ضيع الطريق وسلك فجاً آخر؛ لأنه لم يسلكه نبي قط إلا أوذي، كما بينَّا في حديث ورقة بن نوفل، وكما نص الله عليه في كتابه:{الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:١ - ٣].
ثالثاً: من حكم الله في الأذى الذي يلحق الدعاة على طريق الحق: أنه رفع لمستواهم ولمكانتهم، فقد يكتب الله المنزلة للداعية فلا يبلغها بعمله، فيقيض الله إليه من يتنقصه ويؤذيه؛ فيرفع الله بذلك منزلته وقدره، وقد يكون ذلك بعد موته، فتتلقى ذلك الألسنة، فيرفع الله قدره بذلك ومنزلته، ويهبُ له أولئك المتنقصون حسناتهم إن كانوا من أهل الإيمان.
رابعاً: من حكم الله في ذلك: أن هذه الدعوة ليس لديها من الوسائل ما تصل به كثيراً من البيئات والملأ فتحتاج إلى الوسائل؛ للوصول إلى هنالك.
ومن الوسائل: أن يتكلم الناس فيها، وينتقدونها، فيكون ذلك وسيلة لتقصي أخبارها والبحث عنها، وقديماً قال الشاعر: وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود فإذا تكلم فيها الناس اقتضى ذلك أن يبحث عنها الباحثون عن الحق، وأن يتلمسوا أمورها حتى يطلعوا على جليِّ الأمر وحقيقته، فتصل الدعوة إلى أماكن لم تكن لتصلها من قبل، لولا تنقُّص الناس لها.
خامساً: ومن حكم الله فيها: أنها مقتضية لتوحيد جهد الدعاة واتفاقهم، قال الشاعر: لما أتاني عن عيينة أنه عان عليه تضاعف الأقياد بذلت له نفسي النصيحة إنه عند الشدائد تذهب الأحقاد نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، والإخلاص في القول والعمل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.