[حكمة الله في إيجاد الترابط الاجتماعي لوجود الحاجة بين الناس]
الجانب الآخر من جوانب التعامل هو جانب الاكتساب: فالله سبحانه وتعالى قسم الأرزاق بين الناس، ومن حكمته فيما يقتضي حصول الترابط بينهم أن يعطي هذا ما هو في غنى عنه ويحتاج إليه غيره، ويعطي الآخر ما هو في غنى عنه ويحتاج إليه غيره، حتى يقع التكامل بينهم، وحتى يحتاج بعضهم إلى ما في يد بعض فيقع التبادل بينهم؛ ولهذا شرع لهم البيع وحرم عليهم الربا {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة:٢٧٥] ليقع التكامل فيما بينهم، وهذا التكامل لا بد أن يكون وفق الشرع.
فميزة المسلم المؤمن أنه يميز بين دائرتين متباينتين هما دائرة الحلال ودائرة الحرام، ففي طلب الرزق والاكتساب يعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل له دائرة هي دائرة الحلال وأجاز له التصرف فيها والسعي الموافق للشرع بما ليس فيه مذلة ولا إساءة في الطلب، بل عليه أن يجمل في الطلب ويعلم أن رزقه مضمون، وأنه لا ينال بالحيلة، وكم رأينا من يبذل جهده ووقته طيلة عمره في محاولة جمع المال ويموت فقيراً لا يملك شيئاً! وكم رأينا من لم يتعب في هذه الدنيا ولم يبذل فيها جهداً يذكر ومع هذا مات غنياً وعاش غنياً غير محتاج إلى الناس!! فالقضية هنا ليست باتباع الحيل، بل يقول أحد الحكماء: مثَل الرزق الذي تطلبه مثَل الظل الذي يمشي معك أنت لا تدركه متبعاً فإذا وليت عنه تبعك ويقول الآخر: باتت تعيرني الاقتار والعدما لما رأت لأخيها المال والنعما تباً لرأيك ما الأرزاق عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما ومن هنا فعلى الإنسان أن يجمل في الطلب وأن لا يذل نفسه، وأن لا يجعل نفسه خادماً للدنيا، بل المطلوب أن تكون الدنيا خادمة له هو.
وفي هذا المجال عليه أن يعلم أن الدائرة الأخرى وهي دائرة الحرام دائرة مسدودة، ولا خير له فيها، وإذا زين له الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء أو إخوان السوء أن يتزود من هذه الدائرة التي حرم الله؛ فليتذكر قصة إبليس مع آدم وحواء حين أخرجهما من الجنة، ليتذكر أن على حافتي الطريق أبواباً مفتحة وعليها ستور، ووراء كل باب داع يدعو للولوج، وفوقه داع الله ينادي يقول: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لن تخرج منه.
ليتذكر الإنسان إذا عرضت عليه أية صفقة أو أي مكسب وهو مما حرم الله عليه، أنه يمكن أن يستدرج بهذا حتى يهوي في النار، فيحاول الابتعاد عن دائرة الحرام ما تيسر له ذلك، وليعلم أن (كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به)، وأن ضعاف الإيمان هم الذين يريدون أن يدخلوا هذه الدوائر ويتزودوا من هذا الحرام؛ ولهذا فولاؤهم المنبني على أساس العقيدة غير صحيح، فهم يوالون الكفار لا رغبة في دينهم ولا في قيمهم، ولكن لأنهم يخشون الدوائر، فيريدون أن يغنيهم الكفار مما تحت أيديهم، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[المائدة:٥١ - ٥٢].
وفي هذا المجال على الإنسان أن يتعلم حدود الحلال والحرام؛ ولهذا صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال:(من لم يكن فقيهاً أكل الربا شاء أو أبى)، وقال:(من لم يكن فقيهاً فليخرج من سوقنا)؛ لأنه يخاف أن يغلب غير الفقهاء على الأسواق فيتعاملون بمعاملات محرمة فتنتشر تلك المعاملات، وهي الغبار الذي ينال الناس من الربا، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم:(أنه في آخر الزمان سيعم الربا فمن لم ينل منه ناله من غباره).
وهذا هو واقعنا اليوم، فالاقتصاد العالمي كله يقوم على الربا المؤدي إلى حرب الله ورسوله، ومن لم ينل منه ناله من غباره.
فعلى المؤمن وهو يسعى لبناء شخصيته أن يعلم أن من مقومات شخصيته الابتعاد عن الحرام.