إن الذي يعلم بعض أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سماعه للقرآن وبعض أحواله في عباداته الأخرى، يستشعر أنه صلى الله عليه وسلم مع ما امتن الله به عليه من البشارة العاجلة، ومع ما ادخر له من المقام المحمود العظيم الذي خصه الله به من بين الخلائق؛ كان يتأثر بهذا القرآن تأثراً عجيباً، ففي حديث ابن مسعود في الصحيحين:(أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اقرأ علي القرآن، فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟! فقال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال ابن مسعود: فقرأت سورة النساء حتى بلغت قول الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}[النساء:٤١ - ٤٢]، قال: حسبك! فنظرت فإذا عيناه تهملان).
(وخرج ذات ليلة في المدينة فمر على باب عجوز من الأنصار، فإذا هي تقرأ القرآن، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع، فقرأت العجوز:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}[الغاشية:١]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أتاني، نعم أتاني، وجلس يبكي عند بابها).
وعندما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة فتح مكة، وقد وعده الله سبحانه وتعالى بفتحها عليه فقال:{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا}[الفتح:٢١]، مع ذلك يدخلها وهو في حال عجيب من الخشوع، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما:(فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ألصق ذقنه بصدره حياءً من الله أن يدخل حرمه في السلاح).
فهكذا كان حياؤه من الله، مع أن الله أحلها له، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(وإنما أحلت لي ساعة من نهار)، كما في حديث أبي شريح رضي الله في صحيح البخاري، ومع ذلك يخشع صلى الله عليه وسلم هذا الخشوع العظيم حياءً من الله سبحانه وتعالى، وأدباً معه، وتوقيراً لحرماته، وتعظيماً لها؛ لأن ذلك من التقوى، كما قال عز وجل:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج:٣٢].
إن كثيراً من السابقين كانوا يخشعون في حلق العلم كما يخشعون في الصلاة، فهي عبادة لله سبحانه وتعالى؛ فيستعدون لها، ويتأهبون لها كما يتأهبون للصلاة، ويخشعون فيها كخشوعهم في الصلاة.