والجنة هي الدار التي أعدها الله للنعيم، وجعلها مستقر رحمته، وأعدها لجزاء أوليائه، والنار هي الدار التي أعدها الله لعذاب أعدائه وجعلها محل سخطه وبلائه، فالنار محل سخط الله، والجنة محل رضوان الله ورحمته، وكلتاهما متسعة جداً، فالجنة عرضها السماوات والأرض، والنار كذلك، فمقعد الكافر منها كما بين المدينة ومكة، وضرس الكافر فيها كجبل أحد، وأقدامهم بالكبول السوداء كالجبال السود، كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعلى المؤمن الذي يريد تزكية نفسه وتربيتها، أن يستكشف ما جاء من النصوص في شأن الجنة والنار ووصفهما؛ لأن ذلك يقتضي منه الإقبال على الله سبحانه وتعالى والسعي لدخول الجنة والهرب من النار، فمن لا يعرف الشيء لا يقدره حق قدره؛ ولهذا كان الخطباء من قديم الزمان يعتنون بوصف الجنة والنار، وبما جاء فيهما وبجمع الأحاديث والآيات بذلك، وألف كثير من العلماء في هذا.
فالذي يعرف وصف الجنة وما فيها لا يمكن أن تستزله شهوات الدنيا وملذاتها الفانية؛ لأنه يعلم أنها مقابلة لتلك، مضادة لها، والذي يعلم ما في النار من أصناف العذاب لا يستطيع الجراءة على الله تعالى ومحادته؛ ولذلك ما رأيت كالجنة نام طالبها ولا كالنار نام هاربها.
وأبلغ وصف للجنة هو قول الله تعالى:{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة:١٧]، فلا تصل العقول إلى وصف ما فيها، ولا يمكن أن تبلغ ذلك الألسنة، ولذلك جاء في الحديث القدسي الصحيح:(أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وكل ما فيها مما جاء وصفه في الأحاديث، يأتي بأشياء لا تخطر على قلوب الناس وعقولهم، مع أنه ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، لكن إذا نظرت إلى وصفها في القرآن أو في السنة:{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}[محمد:١٥].
وكذلك الأحاديث الكثيرة الصحيحة في وصف الحور العين، وفي وصف بناء الجنة وفرشها وما فيها، وأنواع الثمرات التي فيها، وأن اللذة التي يلتذها الإنسان فيها تبقى دائماً لا تنقطع، حتى لو أردفت بآلاف الملذات، فنفس اللذة تبقى، وهذا من أعجب ما فيها.
كذلك أوصاف النار المزعة، ومن أبلغها قول الله تعالى:{إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}[الفرقان:١٢ - ١٤]، وكذلك قول الله تعالى:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذاب}[النساء:٥٦]، فإن الوحدات الزمنية التي نعرفها اليوم لا يمكن أن يقاس بها ما هنالك، ففي كل وحدة من وحدات الزمن الأخروي تتغير جلودهم ويكسون جلوداً جديدة، ولذلك فإن الذين مكثوا فيها مدة يسيرة وأخرجوا منها يلقون في نهر الحياة فتنبت أجسامهم كما تنبت الحبة في حميل السيل، ويخرجون منها قد اسودوا وامتحشوا، ولو أن قطرة واحدة من زقومها قطرت في بحار الأرض لخبثت كل ما في الدنيا وبشعته من نتن رائحتها.