ثم بعدها إذا تاب العبد وأحسن تاب الله عليه، وأعظم التوبة الدخول في الإسلام بعد الكفر، فإنه يجب ما قبله، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(الإسلام يجب ما قبله)، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن الإسلام المقصود هنا هو الإسلام الحسن لا كل إسلام، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان أزلفها)، ثم كان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه.
فالإسلام الذي يكفر الذنوب هو الإسلام الحسن الذي يخلص فيه المرء لله، ويحسن ما أمره الله به، ويجتنب ما نهاه عنه، ويفعل ذلك تقرباً إلى مولاه واستسلاماً لأحكامه، فمن يعمل العمل ابتغاء ظهور أو ابتغاء التسمية أو ابتغاء الذكر في هذه الدنيا، أو يعمله لقصد حصوله على هدف من أهدافه أو غرض من أغراضه فإن ذلك العمل لا يقبل، بل يرد على صاحبه، وليس إسلامه حسناً، بل الإسلام الحسن هو الذي يقتضي الاستسلام الكامل لأمر الله:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:٦٥]، فإذا كان العبد لا يستسلم تمام الاستسلام لأمر الله فما وافق هواه من الشرع أخذ به وما خالف هواه رده أو التمس المعاذير لنفسه فهو غير حسن الإسلام، وعمله مردود عليه، ولا يقبل الله توبته حينئذ، ولا تكفر عنه سيئاته السابقة لذلك الإسلام المزيف.
ولهذا قال الله سبحانه وتعالى:{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}[النور:٤٩ - ٥٢]، فهذه التوبة المفترضة على المؤمن إذا أحسن إسلامه تكفر ما سبق، وهي بحسب الذنب الذي يتوب الإنسان منه، فإذا كان الذنب شركاً بالله فإن التوبة منه لا تكون إلا بالإسلام، وإذا كان الذنب بترك حق من حقوق الآدميين فإن التوبة منه لا تكون إلا بإرجاع ذلك الحق لمستحقه، وإذا كان الذنب بحق من حقوق الله المحضة فإن التوبة منه بالندم على ما فرط فيه الإنسان في جنب الله، والإسراع للخروج منه إذا كان متلبساً بالجريمة في وقتها، وكذلك النية على أن لا يعود إلى هذا الذنب، فبهذا تصح توبته.