[كيفية دعوة غير المسلمين بالحكمة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد سبق أن تحدثنا عن مفهوم الدعوة إلى الله خصائصها ومميزاتها وأسسها وضوابطها وسنتحدث -بحول الله- عن بعض وسائل الدعوة إلى الله، كما في قوله تعالى في سورة النحل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:١٢٥]، فلنأخذ من هذه الآية نبراساً نهتدي به إلى ما نقول، والله الموفق في القول والعمل.
هذه الآية من أجمع ما ورد في كيفية الدعوة إلى الله وأساليبها، وقد نزلت في مكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وقد اختلف العلماء هل هي محكمة أم منسوخة بالآيات التي توجب قتال المشركين أينما ثقفوا، وقد ذهب ابن عطية في تفسيره إلى الجمع بين القولين -أي: إلى التفصيل- حيث يقول ويظهر لي أن الاقتصار على هذه الحال -أي: حال اللين والرفق في الدعوة إلى الإسلام، وألا تتعدى مع الكفرة متى احتيج إلى المخاشنة- هو منسوخ لا محالة، وأما من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفرة ورجي إيمانه بها دون قتال فهي محكمة في حقه إلى يوم القيامة، وأيضاً فهي محكمة في جهة العصاة، فهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة.
ويؤكد القرطبي نفس المعنى حيث يقول: هذه الآية نزلت بمكة وقت الأمر بمهادنة قريش، وقد أمر الله رسوله أن يدعو إلى الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة، فهي محكمة في جهة العصاة الموحدين، ومنسوخة في بالقتال في حق الكافرين، وقد قيل -والكلام ما زال للقرطبي -: إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة.
وكلام هذين الإمامين يقرر بوضوح لا لبس فيه أن الأصل في الدعوة إلى الله أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وأن هذا الأسلوب مطلوب في حق الكفار، ولا يعدل عنه إلا إذا لم يجد في حقهم شيء، وأنه متعين في حق عصاة المسلمين والغادرين منهم، ويمنع الشارع العدول عنه إلا في حالات استثنائية محصورة محدودة كقتال الفئة الباغية، ففي القرآن آيات كثيرة تبيح للمؤمنين التعامل مع الكفار الذين لم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم، كقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:٨ - ٩].
وفيه أمر -أي: في القرآن- للنبي صلى الله عليه وسلم بمنح الجوار لمن استجاره من المشركين، وإسماعه كلام الله، ثم إبلاغه مأمنه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:٦]، والبر، والقسط، والجوار، والوفاء بالعهد إلى مدته كلها أساليب دعوية فعالة لما تتركه من أثر إيجابي في نفوس المدعوين، وقد أدت في كثير من الأحيان إلى دفع أعداء الإسلام إلى اعتناق الإسلام والإيمان والدفاع عنه بعدما كانوا من ألد أعدائه، فقد نقل ابن القيم أن الذين استثناهم الله وأمر بالوفاء لهم بعهدهم قد دخلوا في الإسلام قبل أن تنقضي مدة عهدهم، وأن الذين تركوا ليسيحوا في الأرض أربعة أشهر لم يسيحوا في الأرض، وإنما أسلموا، ولا يعارض -أيها الأخ الحبيب- إعمال هذه الآية ما جاء من الأمر بقتال المشركين حيث وجدوا وترصدهم وحصارهم، فالجهاد ماض إلى يوم القيامة، وهو مشروع لتحرير البشرية من العبودية للعباد، وتعبيدها لرب العباد، وإزالة كل قوة تقف في وجه ذلك وإيقافها عند حدودها، ولا يقف الإسلام عند تحدي الدفاع عن أرض الإسلام كما بين ذلك بعض المسلمين خطأ واقعين تحت تأثير دعايات أعداء الله.
يقول سيد قطب رحمه الله عند قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:٥]، يقول: إنه مع هذه الحرب المعلنة على المشركين كافة بعد انسلاخ الأشهر الأربعة يظل الإسلام على سماحته وجديته وواقعيته كذلك، فهو لا يعلنها حرب إبادة، وإنما هي حرب هداية متى أمكن ذلك.
فالمشركون الأفراد الذين لا يجمعهم تجمع جاهلي يتعرض للإسلام ويتصدى له يكفل لهم الإسلام في دار الإسلام الأمن، ويأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيرهم حتى يبلغوا مأمنهم، هذا كله وهم مشركون: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:٦].
إن هذا يعني أن الإسلام حريص على كل قلب بشري أن يهتدي وأن يثوب، وأن المشركين الذين يطلبون الجوار والأمان في دار الإسلام يجب أن يعطوا الجوار والأمان، ذلك أنه في هذه الحالة أمن الإسلام حربهم وتجمعهم وتألبهم عليه، فلا ضير إذن من إعطائهم فرصة سماع القرآن ومعرفة هذا الدين؛ لعل قلوبهم أن تتفتح وتتلقى وتستجيب، وحتى إذا لم تستجب فقد أوجب الله لهم على أهل دار الإسلام أن يحرسوهم بعد إخراجهم حتى يبلغوا بلداً يأمنون فيه على أنفسهم.
ولقد كانت قمة عالية تلك الإجارة والأمان الذي منحه الإسلام لهم في دار الإسلام، ولكن قمم الإسلام الصاعدة ما تزال تتراءى قمة بعد قمة، وهذه هي قمة من قممها، هذه الحراسة للمشرك عدو الإسلام والمسلمين ممن آذى المسلمين وفتنهم وعاداهم هذه السنين! هذه الحراسة له حتى يبلغ مأمنه خارج حدود دار الإسلام، إنه منهج الهداية لا منهج الإبادة.
والذين يتحدثون عن الجهاد في الإسلام فيصمونه بأنه كان لإكراه الناس على الاعتقاد، والذين يحملونهم هذا الاتهام ممن يقفون بالدين موقف الدفاع، فيروحون يدفعون هذه التهمة بأن الإسلام لا يقاتل إلا دفاعاً عن أهله في حدوده الإقليمية! هؤلاء وهؤلاء في حاجة إلى أن يتطلعوا إلى تلك القمة العالية التي يمثلها هذا التوجيه الكريم.
فهذا الدين إعلام لمن يعلمون، وإشارة لمن يستشيرون، حتى من أعدائه الذين شهروا عليه السيف وحاربوه وعاندوه، ولكنه إنما يجاهد بالسيف ليحطم القوى المادية التي تحول بين الأفراد وسماع كلام الله، وتحول بينهم وبين العلم بما أنزل الله؛ فتحول بينهم وبين الهدى، كما تحول بينهم وبين التحرر من عبادة العبيد وتربطهم برب العبيد، والتي تحول بينهم وعبادة رب العبيد وتلجئهم إلى عبادة العبيد، ومتى حطم الإسلام هذه القوى وأزال هذه العقبات فالأفراد -على عقيدتهم- آمنون في كنفه، يعلمهم ولا يرهبهم، ويجيرهم ولا يقتلهم، ثم يحرسهم ويكفلهم حتى يبلغوا مأمنهم، هذا كله وهم يرفضون منهج الله! انتهى الاستشهاد.
ولزوم أحكام هذه الآية -أي: الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة- والجدال بالتي هي أحسن لزوم أحكامها في حق الغافلين من المسلمين وعصاتهم -إلا في حالات استثنائية محصورة كما ذكرنا- أمر واضح بين، فقد أمر القرآن المسلمين بالاعتصام بحبل الله جميعاً واجتناب الفرقة، ونهاهم عن التنازع والافتراق فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:١٠٣]، وقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:٤٦]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)، متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يرجعوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) متفق عليه.
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب إلى أبعد من ذلك حين ينهى عن الإشارة إلى المسلم بسلاح ونحوه ولو مزاحاً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يديه، فيقع في حفرة من النار) متفق عليه، وفي رواية لـ مسلم: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينزع، وإن كان أخاه لأبيه وأمه)، وروى النسائي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قتل المؤمن عند الله أعظم من زوال الدنيا).
وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم في خطبة حجة الوداع، وكانت من آخر خطبه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ودع الناس فيها، ولقد نال المسلمين في ماضيهم من قريب وفي حاضرهم إ