[تضحية أسماء بنت أبي بكر قبل الهجرة]
فمن هذه النماذج البارعة في الإسلام أسماء بنت أبي بكر الصديق: فهي امرأة يرضى نساء الإسلام بتمثيلها لهن، فإنها كانت في بداية هذه الدعوة فتاة صغيرة فامتلأ قلبها بحب هذا الدين والتصديق به والإيمان به، ورأت أنها يجب أن يكون لها دور، وأن يكون لها مباشرة لعمل تنصر به دين الله تعالى، وتقوم بجهدٍ في نصره ونشره، فنجدها عنصراً بارزاً يقوم بعمل خطير في أعظم مهمة من مهمات العهد المكي، وهي مهمة الهجرة، فأعظم مهمة للإسلام في العهد المكي هي مهمة الهجرة من مكة إلى المدينة؛ لأنها بداية إقامة الدولة الإسلامية.
وهي وقت تكالب أعداء الله تعالى على هذه الدعوة وكيدهم لها، وهي وقت ضعفٍ كذلك؛ لأن المسلمين قد خرج أكثرهم من مكة وبقي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي من المستضعفين في القيود والأكبال والسجون، فكان الوقت وقتاً محتاجاً إلى التضحية والبذل في سبيل الله، فانتهزت أسماء هذه الفرصة وقامت بالحق الواجب.
وهنا يأتي درس نفهمه من جهاد أسماء في هذه المرحلة، هذا الدرس ينبغي أن يكون بارزاً بين أعيننا، وهو أننا إذا تحدثنا عن أن المرأة لا يجب عليها كثير من التكاليف، وأنها ليست آلة للقيادة العامة، فليس معنى ذلك أنها إذا لم يقم بها الرجال تسقط عن النساء، بل إذا لم يقم الرجال بما يجب عليهم تعين ذلك على النساء، فإذا لم يقم الرجال بالقيادة التي تجب عليهم، فلا يحل للنساء أن يتركن ذلك، بل يجب عليهن أن يقمن بهذا؛ لأنه حق واجب على المسلمين، وهو فرض كفاية يأثمون بتركه، فإذا لم يقم به أحد تعين على من يطيقه ويستطيعه ممن شهد وحضر، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين.
ومن هنا نعلم أن تراجع النساء واعتذارهن بأن الرجال لم يقوموا بالحق، أو بأن هذا من فروض الرجال وليس من فرائض النساء، تراجع في غير محله واعتذارٌ غير لائق، فإن الرجال إذا لم يقوموا بالحق وجب ذلك على النساء، ولهذا عرفت أسماء أن فرصتها المواتية أن تقوم بالحق في وقت الأزمة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت الظهيرة، وهو وقت لم يكن يأتيه فيه، فحرك حلقة الباب، فقام إليه أبو بكر فأعطاه أوامر سريعة هي خطة الهجرة، وهي على النحو التالي: أن أبا بكر يصحبه في هجرته، وأنهما سيذهبان إلى غار ثور فيمكثان فيه ثلاثة أيام بلياليهن، وأن عبد الله بن أبي بكر وكان شاباً هو المكلف بجمع الأخبار وتقصي المعلومات عن مكائد قريش ومؤامراتها، وأن أسماء هي المكلفة بالتمويل، فهي المكلفة بنقل النفقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في الغار، وهي المكلفة بإعداد سفرتهما وما يحتاجان إليه من زاد، وتهيئة ذلك.
وأن عامر بن فهيرة هو المكلف بالتستير والتغطية.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر في الليل إلى غار ثور، فمكثا فيه هذه الليالي الثلاث بأيامها، وكانت أسماء تأتي في الليل وهي تحمل النفقة، وأرادت أن تهيئ لهما زادهما بمكة، فلم تجد وعاءً للفقر المدقع، فلم يمنعها ذلك من التضيحة بما تستطيع، فأخذت نطاقها، وهو الإزار التي تأتزر به، فقسمته نصفين، نصف اتزرت به، ونصف آثرت به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فجعلته وعاءً لزادهما في هجرتهما، ومن أجل ذلك لقبت بـ ذات النطاقين بهذا اللقب الشريف الذي يشهد بتضحيتها الجسيمة، وبذلها في وقت الأزمة والحاجة.
وكذلك قام عبد الله بالوجه الأكمل لمهمته، فكان يجمع المعلومات ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فينقل إليهما ما جد من أخبار قريش ومؤامراتهم.
وقام عامر بن فهيرة بالمهمة أيضاً على أبلغ الوجوه، فكان يريح الغنم على أثر عبد الله فيطمسه، ويغدو بها على أثر أسماء فيطمس أثرها.
فهذه الفتاة المسلمة كانت حينئذ في بيت أبيها أبي بكر الصديق، وهي متزوجة بـ الزبير بن العوام، لكن الزبير كان فتى فقيراً لا يملك إلا سيفاً وفرساً، وكان قد هاجر وتركها في بداية الحمل بمكة، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة، وكان هاجر إلى الحبشة ثم رجع منها ثم هاجر إلى المدينة.
فلما خرج مهاجراً ترك أسماء حاملاً بابنها عبد الله، فهاجرت في مقدمة النساء المهاجرات بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلت إلى المدينة كان اليهود قد سحروا المسلمين، فتأثرت أسماء بهذا السحر فتأخر حملها فترة، ثم أنجبت عبد الله وأتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحنكه بريقه ودعا له، وكان أول مولود يولد للمهاجرين.
وكانت أسماء قامت بدور بارزٍ في بيت أبيها بمكة حين ترك أبو بكر أباه شيخاً كبيراً ضريراً، أي: أعمى، وخرج أبو بكر مهاجراً بكل ماله في سبيل الله، فقال أبو قحافة لـ أسماء: ماذا ترك لنا أبو بكر؟ فأخذت ظرفاً ملأته من الحجارة وحركته وقالت: ترك لنا هذا المال الكثير، فأراد الشيخ أن يحمل الظرف فإذا هو ثقيل: فقال: هذا مال كثير، فمن تركه لا عليه أن يسافر ويخاطر! والواقع أن أسماء هنا لم تقتصر على التضحية بنفسها، وبما بذلته في سبيل الله عز وجل ونصرة دينه، ولكنها زيادة على ذلك استطاعت أن توظف وسائل أخرى للقيام بهذا الحق، فهاهي تستغل عقلها وشخصيتها في طمأنينة هذا الشيخ الكبير الأعمى حتى لا يجد في نفسه موجدة على ابنه المهاجر في سبيل الله.
وبعد هجرتها كانت شخصاً فاعلاً في دعوة النساء في المدينة وتعليمهن، وكان نساء قريشٍ يعرفن الكتابة، وكان نساء الأنصار لا يعرفن الكتابة، فكان نساء المهاجرين يعلمن نساء الأنصار ما يتعلمن به القرآن من الكتابة، وكانت أسماء قد حفظت بعض القرآن قبل هجرتها فجاءت معلمة إلى المدينة، ومع ذلك لم تنشغل بالدعوة والتعليم عن واجبات البيت، فكانت تذهب إلى أرضٍ وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام بالعقيق، وكان الزبير يزرع فيها، فتأخذ منها ما تعلف به فرس الزبير، وتحمله على رأسها من مسافة طويلة، وقد مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تحمل علف الفرس على رأسها، فقال (لولا غيرة الزبير لحملناك).
وكانت تخدم أم الزبير صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها بأنواع الخدمة، وهنا وجد الزبير أن وراءه شخصاً يوثق به، ويمكن أن توكل إليه المهمات، ويمكن أن يخاطر الشخص إذا تركه وراءه.
فالشخص الذي لا يكل أموره إلى أحد، ولا يعلم أن وراءه من يقوم بمهماته، لا يتشجع على التضحية والبذل، لكن الشخص الذي يعلم أن وراءه من يقوم بكل مهماته، وأن وراءه شخصاً سيقوم بالحقوق كلها، ويؤديها على الوجه الأكمل، لا غرابة أن يخاطر وأن يبذل الكثير، وأن يضحي تضحيات جساماً، ولهذا فإنها شاركت الزبير بن العوام في أجره في غزواته كلها.
وقد شهد الزبير المشاهد كلها مع رسول الله وكان حواليه، ولم تخرج غازيةً في سبيل الله لا طائفة ولا شاكية بحضرة الزبير إلا خرج فيها، وكان ينزل بألفٍ، ولذلك سيره عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع المقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت إلى عمرو بن العاص حين استنجده وكتب إليه أن ينجده بثلاثة آلاف مقاتل، فقال: (أرسلت إليك ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل واحد منهم بألف، فإذا لقيت عدوك فاجعلهم بين المسلمين وبين عدوهم، فإنهم لن يرجعوا حتى يقتلوا أو يحكم الله بينهم وبين عدوهم)، فهذه التضحية التي كان الزبير يقوم بها، وخلدها حسان بن ثابت، رضي الله عنه في قوله: وكم كربة ذب الزبير بسيفه عن المصطفى والله يعطي ويجزل فما مله فيهم ولا كان قبله وليس يكون الدهر مادام يذبل كلها تشاركه فيها أسماء بنت أبي بكر، فهي التي خلفته في أهله وقامت بحقوقه، ووفرت له الجو المناسب ليضحي في سبيل الله، وليقوم بحقه.