للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدولة في الإسلام دولة شورى لا استبداد]

وإن دولة الإسلام مما يميزها أمور أخرى سأذكر بعضها ولا أحاول حصرها، فمن ذلك: أنها دولة شورى فليست دولة استبداد ولا مصادرة لآراء الأفراد، ولا اتخاذ للقرارات الفردية، إنما هي دولة شورى يتشاور فيها المسلمون فيما بينهم في أمرهم، ويتشاورون في اختيار حاكمهم، وتيشاورون في تحديد سياساتهم وفي ترتيب أولوياتهم، كل هذا يميز هذه الدولة عما سواها من الدول.

قد وصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء المؤمنين بوصف الشورى في قوله جل ذكره: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:٣٨]، وأُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بها في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:١٥٩]، وأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وحض عليها، وذكر أهل العلم أن فيها كثيراً من الفوائد منها: أولاً: أنها طاعة لأمر الله سبحانه وتعالى، فمن لا ينتهج أسلوب الشورى فليس مطيعاً لأمر الله تعالى حيث قال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:١٥٩]، وقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:٣٨].

ثانياً: أنها اتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزوم لهديه ومنهجه.

ثالثاً: أنها مدعاة للتوصل إلى الصواب؛ فإذا تزاحمت العقول خرج الصواب.

رابعاً: أنها مدعاة لإزالة الضغائن والحقد، فمن يستشار في الأمر لا يمكن أن يجد في نفسه حرجاً ولا حسداً للقائم بالأمر، ومن هنا سيرضى به ويرضى عن تصرفاته؛ لأنه شاوره في الأمر.

خامساً: أن فيها إشراكاً في الأجر، فمن تستشيره فإنك تشركه في أجر القرار الذي ستتخذه.

سادساً: أن فيها تسلية عند إخفاق القرار، فمن اتخذ قراراً بعد استشارة، وفشل قراره ذلك، فإن له في ذلك تسلية، بأن هذا ليس من تدبيره وحده وإنما استشار الناس فيه.

سابعاً: أنها مدعاة للطاعة والتنفيذ، وأن من استشير عند اتخاذ القرار لا يمكن أن يخالف رأيه الذي أشار به، فهذا سيلزمه بالعمل على أساسه.

ثامناً: أنها تعويد لمن تقوده على الشورى، حتى لا يكون مستبداً إذا تولى هو القيادة.

تاسعاً: أنها أيضاً مدعاة لانقطاع الندم، فما خاب من استشار ولا ندم من استخار.

عاشراً: أن الشورى كذلك مدعاة لاستغلال كل الجهود؛ لأن كثيراً من الناس لا يشعر بمكانه ولا بأثره ومشاركته إلا إذا استشير.

الحادي عشر: أنها تغلب على النفس؛ لأن النفس البشرية تسعى لاتباع الحظوظ وتريد الكمال وتدعيه، فإذا كان الإنسان يقهر نفسه بالشورى ويريها أنها ناقصة وأنها محتاجة إلى عقل غيرها وعلمه؛ فهذا تغلب على النفس وقهر لها، هذه من فوائد الشورى ولا تقتصر على هذه.

وينبغي على القائم بأمر المسلمين أن يستشير في أموره، لكن لا يلزمه أن يستشير كل أحد، ويلزمه أن يشاور الناس في أمرهم العام ولا يلزمه الاستشارة في أموره الخاصة، لكنها مندوبة له، وهي أفضل، ولا يلزمه أن يستشير في الأمور المستعجلة، التي قد تأتيه وليس بحضرته أهل الاختصاص الذين يستشيرهم في ذلك الأمر.

وأيضاً: فإن إشارة بعض الأفراد غير ملزمة للقائم بالأمر ما لم يكونوا مرتبين لذلك، فإن كانوا مرتبين لذلك كأهل بدر وأهل الشورى في الأمة الإسلامية، الذين لا يحل للخليفة أن يتخذ قراراً حاسماً في أمور الأمة إلا بعد مشورتهم، فهؤلاء شوراهم ملزمة، فإذا اتخذوا رأياً معيناً ورجحوه لا يحل له أن يخالفه، أما ما سوى ذلك من الشورى فهو غير ملزم، بل هو معلم للصواب فقط.

ويجب على من تولى الأمر أين كان أن يحاول أن يستشير أهل الاختصاص في أي أمر سيتخذ فيه القرار، فلو كان الذي يتولى الأمر قاضياً مثلاً يجب عليه أن يشاور العلماء وأن يحضرهم مجلسه، وهذا محل اتفاق بين المذاهب، وتعرفون في مختصر خليل رحمه الله تعالى في باب القضاء: وأحضر العلماء وشاورهم.

فيجب على القاضي أن يحضر العلماء مجلس حكمه، وأن يشاورهم فيما يتخذه من الأقضية والصلح وغير ذلك.

وكذلك إذا كان الأمر يتعلق بالاقتصاد فلابد أن يستشار فيه الاقتصاديون، وإذا كان يتعلق بأمر السياسة فلابد أن يستشار فيه الساسة، وإذا كان يتعلق بأمر الاجتماع فلابد أن يستشار فيه أهل هذا التخصص، فهذه التخصصات معتبرة شرعاً، ولابد من اعتبارها حتى لا يستبد الأفراد، فإن الاستبداد من مظاهر الجبرية والملك العاض، وليس من مظاهر دولة الإسلام التي أنشأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون.

كذلك هي وسيلة اختيار حاكم المسلمين؛ لأن الحكم لله سبحانه وتعالى وحده، وهو قد عين أنبياءه قادة لخلقه، وجعل ذلك جائزة على الامتحان الشديد الذي لقوه في ذاته، وجعل إبراهيم للناس إماماً فقال سبحانه وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:١٢٤]، فالظالمون أي: الذين يظلمون الناس ولا يؤدون حق الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكونوا أئمة للمسلمين؛ لأن الله شرط هذا الشرط على إبراهيم.

وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعين أحداً بعينه أنه هو الذي يلي الأمر من بعده، فاختار المسلمون أبا بكر وبايعوه بيعتين، أولاهما البيعة المبدئية وكانت بسقيفة بني ساعدة، والأخرى البيعة العامة وكانت بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم على منبره.

وكذلك حين عهد إلى عمر، فكانت بيعة عمر جزءاً من بيعة أبي بكر، ومع هذا فقد بايعه الناس في المسجد، وعندما عهد بها عمر إلى الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض -تنازل ثلاثة منهم لثلاثة- فتنازل الزبير بن العوام لـ علي بن أبي طالب، وتنازل طلحة بن عبيد الله لـ عثمان بن عفان، وتنازل سعد بن أبي وقاص لـ عبد الرحمن بن عوف، فانحصر أمر الأمة حينئذٍ في ثلاثة وهم: عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ثم تنازل عبد الرحمن لصالح عثمان وعلي بشرط أن يختار هو السابق منهما، فانحصر الأمر في عثمان وعلي وكان السبق لـ عثمان ثم من بعده علي، فعندما اختاره عبد الرحمن وبايعه بايعته الأمة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لما قتل عثمان مظلوماً بايعت الأمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.