للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العمر الثاني: عمر الإنسان الشخصي]

هذا العمر الذي بدأ بالنفخ فيه وهو جنين في بطن أمه، وينتهي بنزع الروح منه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا كان في منقطع من الدنيا وإقبال من الآخرة أتاه ملك الموت، فجلس عند رأسه، فإن كانت نفسه طيبة قال لها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٧ - ٣٠]، فتخرج نفسه كما تسل القطرة من في السقاء، فلا تمكث في يد ملك الموت طرفة، بل يتناولها ملائكةٌ كأن وجوههم الشموس قد جلسوا مد البصر وهم باسطو أيديهم، فيجعلونها في كفن من أكفان الجنة، ويطيبونها من طيب الجنة، ويرتفعون بها إلى السماء، فيستأذنون فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة، فيؤذن لها حتى تخر ساجدةً تحت العرش، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت لسؤال الملكين.

وإن كانت النفس الخبيثة قال لها ملك الموت: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة.

فتتفرق في البدن فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول -والسفود: مسمار فيه عوجٌ والتواء-، فينتزعها بشدة وقوة فلا تمكث في يده طرفة عين، بل يتناولها أولئك الملائكة الذين قال الله تعالى في حقهم: {والملائكة بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} [الأنعام:٩٣] فيأخذون تلك النفس الخبيثة، فيجعلونها في سفط من أسفاط النار، ويغطونها من قطران النار، ويرتفعون بها فيستأذنون، فلا يؤذن لها، وقرأ صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:٤٠]، فترد النفس من حيث أتت خائبةً خاسرة.

ومن علم أن نهايته هكذا وهو لا يدري إلى أي الحالين ٍيصير، وعلم كذلك أن انتقاله بعد الموت إلى القبر، وبه تقوم قيامته، فإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته، يبدو له من الله ما لم يكن يحتسب، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:٤٧]، ولهذا قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:١٩ - ٢٢].

يتصور الإنسان المقابر عندما يقف عليها أمراً سهلاً، وأنها كما نرى ظاهرها، ولكن هناك فرق بين ظاهرها وباطنها، بل هناك أمر لا يمكن أن نتصوره، فالقبر أول منازل الآخرة، واعلم أنه أول شيء من الآخرة العظيمة التي وصفها الله بما نعلم من الأوصاف، فهي القارعة، وهي الصاخة، وهي الطامة، وهي الآزفة، إن أول منازلها لا بد أن يكون مفظعاً مروعاً، ولذلك فأول ما يلقاه الإنسان بعد تلك الضجعة ضمة القبر، التي تختلف منها الأضلاع، وتزول منها الحمائل، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في جنازة، فلما وضع الميت في لحده نظر إلى أصحابه، فقال: (أعدوا لمثل هذه الضجعة).

كذلك بعد هذا مجيء منكر ونكير اللذين يأتيان في أبشع صورة، يأتيان المرء فيقولان له بكل عنفٍ: (من ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيوفقه الله ويثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل الذي بعث إلينا هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد، هو محمد، هو محمد -ثلاثاً- جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه.

فيقولان له: صدقت وبررت، نم نومة عروس ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه هاه.

لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت.

ويملآن عليه قبره بالثعابين والحيات والعقارب، وتفتح له نافذةٌ إلى مقعده من النار، ويضربانه بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها، فيصيح صيحة يسمعه من يليه إلا الإنس والجن، وبذلك تنقطع أخبار الإنسان الذي حل في القبر، فلا يصل إلينا شيء من أخباره: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٠٠].

تختلط بالقبر الواحد عظام من هو في غاية النعيم، ومن هو في غاية العذاب، فلا هذا يحس بشيء من نعيم هذا، ولا هذا يحس شيئاً من عذاب هذا، وقد اختلطت عظامهما وتحللت أجسادهما في تربة واحدة، لكن ذلك الاختلاط لا يمكن أن يخفي شيئاً من حالهما على الله عز وجل، فلهذا لا يصل إلى أحدهما شيءٌ من حال الآخر، لا هذا يحس بنعيم الآخر، ولا الآخر يحس بعذاب هذا، فمن علم هذا الحال كذلك ولم يدر متى يموت، كما قال سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:٣٤]، وهو يعلم أن كل يوم من الأيام ينطلق فيه وفدٌ من أهل الدنيا إلى الآخرة، ولا يشاور من سيخرج اليوم في وفد الآخرة، فلا يدري: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف:١٨٥]، فيمكن أن ينتقل كل واحد إلى الآخرة اليوم أو غداً، وهكذا، فمن كان كذلك فعليه أن يجتهد في الفرصة الباقية، وهو يعلم هول ما أمامه وشدته.