[الحث على استغلال الأعمار الثلاثة للإنسان]
فهذه الأعمار الثلاثة على الإنسان أن يجتهد في استغلالها، وأن يكون رشيداً، وأن لا يكون سفيهاً، فالسفيه هو المبذر الذي يجمع بالتعب ويفرق في غير طائل، فكذلك الذي لا يستغل هذه النعم ويبذرها في غير طائل فهو سفيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع -وذكر منها-: وعن شبابه فيما أبلاه)، إن كل من مضى عليه عمر الشباب ووقته فهو يتذكر ضياعاً كثيراً فيما مضى من عمره، ولذلك لا يسره أن تعرض عليه أعماله في شبابه، ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله: إن عُمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره.
السؤال الثاني: (وعن عمره فيما أفناه)، فإن كثيراً من الناس يقطع العمر بالحكايات التي لا طائل من ورائها، فيجلس مع مجموعة ساعةٍ كاملة تخلو غالباً من ذكر الله، وإن كثيراً من الناس يحسن الثناء على الناس ولا يحسن الثناء على الله، فلو عرضت عليه صحيفته لوجد فيها كثيرٌ من مدح الناس، لكن كم فيها من الثناء على الله؟! الشيء اليسير، ولا يحسن ذلك إلا إذا قرأ الفاتحة في الصلاة، وهكذا فالأوقات تمضي فيما لا طائل من ورائه.
السؤال الثالث: قال: (وعن علمه فيما عمل به)، فكل من بلغته كلمةٌ واحدةٌ مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فيسأل عنها، ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخافه كتاب الله، أن لا تبقى آية آمرةٌ إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك آمرةً فلم تأتمر بي.
ولا آية زاجرةٌ إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك زاجرة فلم تنزجر بي).
إننا نحفظ القرآن كاملاً، ونسمعه ونقرؤه، لكن علينا أن نتذكر أن هذا القرآن يلعن أقواماً وهم يقرؤونه، فرب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه، فإذا كنت تخالف ما تقرأ فكنت تقرأ قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:١٦٢ - ١٦٣]، وتخالف ذلك فلا تجعل حياتك لله، ولا صلاتك خالصةً لله، ولا عبادتك خالصةً لله، ولا تريد أن يكون موتك في سبيل الله، فكيف تكذب على الله وتشهده على ما ليس بحق وهو علام الغيوب؟ كذلك إذا قرأت قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:١١١].
فأنت تعلم أن هذه الآية ناطقةٌ عليك، وأن هذا القرآن ينطق يوم القيامة، فإما أن يشفع وإما أن يمحل، فهو شافعٌ لا يرد، أو ماحل مصدق، يقود أقواماً حتى يدخلهم الجنة، ويسوق آخرين حتى يكبهم على وجوههم في النار، ويأتي يوم القيامة تتقدمه البقرة وآل عمران في صورة غمامتين يحاجان عن صاحبهما، ثم إنك إذا تعلمت ولو جزءاً يسيراً فاعلم أن فيه لله سبحانه وتعالى كثيراً من الحقوق، منها حق العمل به، ومنها حق تدبره وتفهمه، ومنها حق الاتعاظ به.
السؤال الرابع: قال: (وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)، فيسأل في المال سؤالين: السؤال الأول: يقال له: من أين لك هذا؟ هل أخذته من حله أم لا؟ فإن كان أخذه من حله فإنه سيبارك له فيه، وإذا وفق لصرفه في محله فإنه سيكون ستراً له من النار، وإن أخذه من غير حله فإنه سيندم عليه، فيقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:٢٨ - ٢٩].
السؤال الثاني في المال: هو قوله: (فيمَ أنفقه؟) بعد أن اكتسبه وجمعه، فهل يكفي مجرد الجمع؟ لا.
بل المال يجمعه الإنسان فيتعب فيه، ثم بعد ذلك ينفقه ويفرقه، ففيمَ أنفقه؟ هذا السؤال على كل إنسان أن يطرحه على نفسه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مكائد الشيطان في الحرص، فقال صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي مالي.
وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو قدمت لآخرتك).
وقال كذلك فيما صح عنه: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه.
قال: فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر).
فلذلك على الإنسان أن يستحضر هذه الأسئلة الأربعة، ويعلم أنه سيواجه بها بين يدي الله، (لن تزول قدما عبد) أي: لن تتحرك واحدةٌ منهما من مكانها حتى يجيب عن هذه الأسئلة.