[ليست الدولة دولة فرد ولا قبيلة]
أنها دولة الإسلام، فليست دولة فرد يريد بها إشباع رغباته واتباع شهواته، وأن يجعل مال الله دولاً، وأن يجعل عباد الله خولاً، وليست دولة قبيلة ولا حزب ولا بلد مخصوص وإنما هي دولة الدين.
فإذاً: تميزها هذه العقيدة التي تجعلها متصلة بالله سبحانه وتعالى، ومنطلقة من أمره سبحانه وتعالى، وساعية لإعلاء كلمته وإعزاز دينه، وليست ساعية لإعزاز فرد ولا لإشباع رغباته، ولا لإعزاز مجموعة مخصوصة، ولا لتهيئة حاجياتها وما تطلبه، بل هي دولة للإسلام.
وافترض الله سبحانه وتعالى ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقاموا به أفضل قيام، سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة دولة للإسلام ولم يردها لنفسه ولا لقبيلته ولا لآل بيته، بل جعلها دولة لدين الله، ألا تلاحظون أن الله عرض عليه أن يكون نبياً ملكاً أو أن يكون نبياً عبداً فاختار أن يكون نبياً عبداً، وعندما جاءه الأعرابي الذي عرف خدمة الملوك فانحنى بين يديه وارتعشت بوادره، قال له: (أربع على نفسك، فإنني لست ملكاً، إنما أنا عبد الله ورسوله).
وكذلك كان يقول لأمته على الملأ: (ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ليس لي مما أوتيتم إلا الخمس وهو مردود عليكم)، فلم يتخذ شيئاً من مال الله مختصاً به لنفسه، بل كان يعيش في حجرات، يقول الحسن البصري عنها: لو مد الرجل يده للامست سقف حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ينام على حصير فيؤثر في جنبه ويبقى أثره عليه، ويقول جابر بن عبد الله: لو دخلت أبيات النبي صلى الله عليه وسلم ما رأيت شيئاً يرد البصر، يعني: ما رأيت شيئاً تتعلق به النفس وتهواه، فكل ما فيها من وسط متاع الناس، أو من أدناه.
كذلك صلى الله عليه وسلم لم يجعل مميزات في بني هاشم، بل كان لهم من الحقوق ما لغيرهم، ولم يختصهم بأي شيء، ولذلك لم يكن من خلقه رجلاً من بني هاشم، وإنما هو رجل من بني تيم بن مرة، وقال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) وأبو بكر رجل من بني تيم بن مرة بن كعب بن لؤي وليس من بني هاشم ولا من بني عبد مناف.
وكذلك لم يجعلها دولة مختصة بقريش أو بالتمكين لهم في الأرض وإن كانت الإمامة مختصة بهم، لكن الوظائف والقيام بالمصالح لا يختص بهم، بل قال: (إنا لا نولي عملنا من سأله) وقال: (من ولى على عمل رجلاً وهو يجد أصلح منه لقي الله خائناً)، فلذلك لم يختص قريشاً بالوظائف وإنما أعطى اللواء يوم فتح مكة لـ سعد بن عبادة بن دليم وهو رجل من الخزرج، ثم حين شكي إليه، انتزعه منه وأعطاه ولده قيس بن سعد بن عبادة بن دليم.
وكذلك إذا نظرتم إلى من يعقد له الرسول صلى الله عليه وسلم اللواء في الغزوات المختلفة، أو يستعمله في الأعمال، ستجدون قريشاً مثل سواهم، ليس لهم ما يميزهم إلا قضية الإمامة فقط، وهذه حكمة ربانية، وهي أن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، كما قال أبو بكر في خطبته يوم السقيفة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش)، وقال أبو بكر للأنصار: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، والأمر إذ ذاك شورى بين الجميع.
وكل قوم إنما يختار منهم الأعدل والأكفأ، فيستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يصلح للعمل دون النظر إلى سنه أو علمه أو قبيلته أو تخصصه، بل اختار لإمارة مكة وإمامة المسجد الحرام والقضاء بين الناس بمكة شاباً هو عتاب بن أسيد وكان في السابعة عشرة من عمره.
واختار لقيادة جيش أراد أن يبعثه في حياته أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل وهو شاب من بني كلب بن وبرة بن الحاف بن قضاعة ولم يتجاوز عمره سبع عشرة سنة، وفي الجيش أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ومن سواهم من كبار المهاجرين، وكذلك أمر على البحرين العلاء بن الحضرمي، وأمر الضحاك بن سفيان كذلك على عمان، وأمره على كتيبة بني سليم يوم الفتح.
كل هذا يدلنا على أن هذه الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن دولة فرد ولا دولة قبيلة ولا دولة جهة ولا دولة حزب وإنما كانت دولة الإسلام، فالعزيز فيها هو هذا الدين، والذي يقصد إعزازه والتمكين له هو هذا الدين، وسار على هذا النهج الخلفاء الراشدون المهديون.
فهذا أبو بكر رضي الله عنه يعهد بالخلافة من بعده لـ عمر بن الخطاب، وهو ليس من بني تيم بن مرة الذين منهم أبو بكر، مع أن أولاده يصلحون للخلافة، ولكنه نحاها عنهم، ومع أن من بني عمه طلحة بن عبيد الله الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله)، وأنزل الله فيه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:٢٣]، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فلا يضره ما صنع أبداً، ومع ذلك عدل عنه أبو بكر ولم يعهد إليه بالخلافة، وإنما عهد بها إلى عمر.
وكذلك عمر بن الخطاب عندما جعلها في الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، أخرج منهم سعيد بن زيد وهو ابن عمه وزوج أخته، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وممن شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بعينه بالجنة، فلا يضره ما فعله أبداً، لكن عمر أبعده؛ حتى لا تكون الخلافة دولة يتداولها بنو عدي بن كعب فقط.
وكذلك فإن علياً رضي الله عنه حين طعن جاءه أهل العراق يطلبون منه أن يولي عليهم الحسن بن علي فقال: لا والله لا أفعل، فلا يكون كبر هذا الأمر علي حياً وميتاً، إنما توليته بتكليف الله ما دمت حياً، فإذا أنا مت فقد انقطع التكليف، فلا أتحمله في حياتي وبعد موتي.
وكذلك فإن أبا بكر رضي الله عنه حين تولى الخلافة مكث سنة يدير أمور هذه الدولة، ولم يأخذ أي راتب من بيت المال، فلما نفدت تجارته كلم الناس في المسجد فقال: أيها المؤمنون! إني كنت امرأً تاجراً، وإنكم شغلتموني بأموركم عن أمور تجارتي، فلو تجعلون لي رزقاً من بيت مالكم، فجلس أهل المسجد يتفاوضون كم يجعلون لـ أبي بكر؟ كم الراتب الذي يستحقه على العمل الذي يقوم به؟ وعينوا له راتباً، ثم لما تولى عمر أخذ ذلك الراتب ولم يزد فيه مع أن أعماله قد ازدادت على أعمال أبي بكر، اتسعت الخلافة واتسعت الأرض واتسع التدبير، واحتاج الناس إلى كثير من المال لم يكونوا محتاجين إليه في زمان أبي بكر، لكنه لم يزد في راتبه شيئاً، وحين ازدادت الميزانية، واتسعت الأموال، وكثر ما في بيت المال، لم يزد راتب الخليفة عما كان عليه في حال الضيق والمشقة.
وحين أدركه الموت دعا ولده عبد الله بن عمر فقال: إني كنت أخذت من بيت المال هذا الرزق الذي كان يأخذه أبو بكر، وإن المسلمين لم يعطوني إياه وإنما أعطوه أبا بكر، فلعلي أكون قصرت فلم أقم بما كان يقوم به أبو بكر، وقد كتبت كل ما أخذت من بيت المال فأرجعه إليه، وإن وجدت في مال آل عمر وفاءً فخذه، وإلا فخذ من مال بني عدي بن كعب، فلأن يكونوا خصومي يوم القيامة أحب إلي من أن يخاصمني المسلمون، فأرجع راتبه مدة عشر سنوات وأشهر، أرجعه إلى بيت المال، تورعاً منه؛ لأنه يخاف ألا يكون قام بهذا الحق الذي بايعه الناس عليه، فهو يعلم أن البيعة لابد فيها من طرفين، ولابد أن يقوم بالواجب الذي عليه، ولا يمكن أن يأخذ حقوق المسلمين دون أن يدفع لهم مقابلاً وأن يقدم لهم خدمة، فخشي ألا يكون قد قام بالواجب، فأرجع إليهم ما أخذ من بيت مالهم.
ولما تولى عثمان الخلافة خطب في الناس فأخبرهم أنه غني عن مالهم، وأنه لا يحتاج إلى أي شيء من بيت مال المسلمين، فأرجع عليهم الراتب، ووفره على بيت مال المسلمين.
وهكذا فإن هذه الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعه عليها خلفاؤه الراشدون، كانت دولة الإسلام فعلاً، أما ما بعد ذلك فقد بدأت هذه الدولة تنحرف عن مداها وتسير في غير مرماها، فبدأ الناس يريدون هذه الدول لأفراد، ويريدون أن تكون ملكاً خاصاً لفرد أو لأسرة أو لقبيلة أو لبلدة أو نحو ذلك، ومن هنا فلم تكن دولة الإسلام تماماً، وهذا ما أوعد به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال فيما روى عنه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في مسند أحمد وغيره: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة وسكت).