للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقسام الناس في العلم]

وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الناس حيال هذا العلم قد انقسموا إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: قومٌ تعلموا ما ينفعهم وينفع من سواهم، فعلموا الناس وأرشدوهم، وعملوا هم بما تعلموا، وهؤلاء في أعلى الدرجات.

القسم الثاني: قومٌ تعلموا ما يعملون به وينجيهم من عذاب الله، ولكن لم يعلموا الناس، ولم يستطيعوا أن يصلوا إلى ذلك المستوى، وهؤلاء هم الدرجة التي تليها.

القسم الثالث: قومُ لم يرفعوا بذلك رأساً، ولم ينتفعوا بهدى الله الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فأعرضوا عما جاء به، فلم يتعلموا ولم يعلموا.

وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لهذه الأقسام الثلاثة، فقد أخرج البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت عشباً، فذلك مثل من نفعه ما بعثني الله به فعلم، وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به)، فهنا بيَّن هذه الطبقات، وجعل المعرضين عن هذا التعلم الذين لا يرفعون به رأساً ولا ينتفعون به في أدنى الدرجات وأحطها وأبعدها عن الحق.

ومن أجل هذا قال الله سبحانه وتعالى في وصف الأعراب: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:٩٧]، فليس وراء الجهل بحدود ما أنزل الله على رسوله عيب، ولذلك أخرهم الله تعالى بالمنزلة، وجعل ولاية المؤمنين لهم ناقصة.

فالله تعالى جعل الولاء درجتين: الدرجة الأولى: الولاء العام بين عامة المسلمين وهذا الولاء هو المذكور في قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:١٠]، وفي قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بعض} [التوبة:٧١].

الدرجة الثانية -وهي أقوى من سابقتها-: الولاء بين العاملين لنصرة الدين والساعين لإعلاء كلمة الله.

وهذا الولاء أخص وأقوى من سابقه، وهذا الذي أكده سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:٧٢].

فجعل هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يشاركوا في إقامة دولة الإسلام ولم يتعلموا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما جلسوا في باديتهم وما كانوا عليه، مع أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، جعل ولاء المؤمنين لهم مختصاً بمن لم يكن بينه وبين المؤمنين عمل، فقال: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:٧٢]، فجعل هذا الولاء الخصوصي في أن يهاجروا، فالهجرة مشاركة في إقامة دولة الإسلام، ومشاركة كذلك في تعلم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.