للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المعذرة إلى الله تعالى]

أولهما: المعذرة إلى الله سبحانه وتعالى بفعل ما أمر به؛ لأننا مكلفون متعبدون بهذه الدعوة، وهي من صميم تكليفنا وعبادتنا لله، حتى لو أيقنَّا أنه لا يستجاب لدعوتنا، فإن ذلك لا يمنع القيام بها، بل لابد أن نؤديها كما أمر الله سبحانه وتعالى، ونتعبد الله سبحانه وتعالى بها؛ ولهذا فإن نوحاً عليه السلام مع طول المدة لم ييئس ولم يقنط، ولم يتراجع، بل استمر على منهجه يغير من أساليب الدعوة بحسب الأحوال، فلذلك قال فيما حكى الله عنه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:٥ - ١٤].

فنوَّع الأساليب باعتبار أحوال قومه، وصبر على أذاهم، واستمر في دعوته، ومع هذا قال الله تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود:٤٠]، وليس ذلك راجعاً إلى أنه فشل في دعوته، أو لم ينوع الأساليب أو قصر بل قد نجح غاية النجاح، وبذل قصارى جهده، وشهد الله له بذلك، وسيشهد له به محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته يوم القيامة، لكن أراد الله ألا يستجاب لدعوته على مستوى واسع في ذلك الزمان، ثم يرفع الله قدره بأن يجعله أباً للبشر، فلو استجاب له الناس إذاً لم يكن نوحٌ أبا البشر؛ لأن البشر قد انتشروا وكثروا إذ ذاك من سلالات متنوعة، فلا يمكن أن يكون أبا البشر إلا بذلك الطوفان المهلك للجميع، ولا يأتي الطوفان مهلكاً للجميع إلا إذا قلَّ أتباع نوحٍ من الناس.