للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التحذير من غرور الشيطان ومشاغله وخدعه وأوهامه]

إن غرور الشيطان في هذه الحياة الدنيا كثير، كما ذكرناه من الغرور في الوقت، إنما نشاهده بعد مضي الزمن، ينظر الإنسان فيما مضى من عمره فيجد السنة والسنتين والثلاث والأربع وتقدمه في الإيمان فيها بطيء، لكن إسراعه إلى الموت سريع.

فهو يسرع سرعة هائلة إلى الموت، يطوي المسافات، فكل يوم يقطع فيه مسافة طويلة إلى الموت، ومع ذلك فإن تقدمه في الإيمان والعمل الصالح يسير وقليل لا يرضاه إلا إذا كان منافقاً، فالمنافق يغتر بذلك، ويظن أن ما عمله كافٍ، والغرور ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق.

ثم من مشاغل الشيطان كذلك التي يشغل بها الإنسان في هذه الحياة الدنيا أن ينسى لماذا أتى إلى هذه الدار، وما هي مهمته فيها، فهل جاء من أجل تقوية بدنه وتحسين سمعته؟ وهل جاء من أجل جمع ماله؟ وهل جاء من أجل التمتع بالشهوات والملذات؟ لماذا جاء إلى هنا؟ لماذا خلقنا الله؟ فنحن ما خلقنا أنفسنا، ولا اُستشرنا بالخلق في الخلق: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:٨] يخلقنا الله في أي صورة شاء، فمنا الطويل، ومنا القصير، ومنا الوسط، ومنا الأبيض، ومنا الأسود، ومنا الحسن، ومنا القبيح، فليس لنا مشورة في ذلك، وقد قال الله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:٥١]، فمن كان كذلك يعلم أنه ما استشير في خلقه عليه أن يسأل: لماذا خلقت؟ وجواب ذلك قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:٥٦ - ٥٨].

إن كل شيء قيمته هي ما من أجله خلق، وما من أجله صُنع، فمكبر الصوت ما قيمته ولماذا صنع؟ لقد صنع لتسميع الصوت وتكبيره، فإذا لم يكن فيه هذه المنفعة هل سيُشترى بأغلى الأثمان؟ وهل له قيمة؟ ما له قيمة، بل يرمى في القمامات؛ لأنه لا فائدة فيه، ولذلك فمشاغل الشيطان التي يشغل بها الإنسان في هذه الحياة الدنيا عن عبادة الله منها ما هو معصية لله، فهو يستغله تماماً على عكس الاتجاه، فالاتجاه السليم أن يتجه إلى العبادة، فإذا اشتغل في المعصية فقد عكس الاتجاه وانصرف إلى الخلف، نسأل الله السلامة والعافية.

ثم إذا لم يستجب له في ذلك حاول صرفه إلى الأطراف وبنيات الطريق، فيشتغل باللغو الذي لا ينفع، ويمضي العمر في ذلك اللغو دون طائل، فإذا لم يستجب له في ذلك حاول شغله بالمفضول عن الفاضل، يشتغل بعبادةٍ مفضولة عن عبادةٍ هي أفضل منها، فإن لم يستطع ذلك خيل له التعارض بين العبادات، وأنه لا يمكن أن يجمع بينها، فيقتصر على بعضها دون بعض، وهكذا فلا يزال مخادعاً له، فهو لصٌ يجوس حول الديار يريد ثغرةً يدخل منها، كاللص الذي يجوس حول الديار، يريد أي ثغرةٍ يدخل منها، ولهذا علينا أن ندرك مخاطره وغواياته، وأن نعلم أننا إذا لم نتخذه عدواً فلم نستجب ما أمرنا الله به، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر:٦]، وهذه الآية جمعت بين خبر وأمر، فالخبر صدق، والأمر لابد أن يحقق، الأمر يقتضي التصديق، والخبر يقتضي التصديق، فلذلك علينا بعد أن صدقنا الخبر أن نبادر لتصديق الأمر، ولا يمكن أن تعلم أن فلاناً من الناس عدواً لك، فتسالمه أنت ولا تفعل أي شيء يوصل إليه ضرراً، لن تطيعه فيما يأمر به وتنقاد له، فمن كان هكذا فهو في غاية المذلة والهوان، فلهذا علينا أن نتخذ الشيطان عدواً، وأن نعلم أنه يسعى لغواية الناس بحبائله المختلفة، فمنها ما يزينه للناس من بعض المكاسب المحرمة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل في الأرض كثيراً من أنواع الحلال التي يمكن أن يعيش بها بنو آدم.

لكن يأتي الشيطان فيخيل للإنسان أنه لا يمكن أن يعيش في هذه الحياة الدنيا إلا بكسب خبيث، كالمشي بالنميمة، فيجعله قتاتاً يمشي بالنميمة بين الناس، وهذا شر كسب على الأرض، وقد صح في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنة قتات)، والقتات: هو النمام المتجسس.

ثم يمكن أن يخيل إليه الشيطان أنه لن يرزق إلا من الربا، والربا يترتب عليه حرب الله ورسوله، يقول عز وجل: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:٢٧٩]، ويمكن أن يخيل إليه أنه لن يُرزق إلا بأن يذل نفسه للبشر، وينسى رب البشر، الكريم الذي ينادي عباده فيقول: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:٣٢]، ويقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:١٨٦]، ويقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:٦٠]، فهو الذي يعطي قبل المسألة، ويعطي إذا سئل، ويدخر بعد ذلك الكثير، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:٦٢]، فهو الذي يرضى لعباده أن يسألوه، وغيره ليس كذلك.

فالمذلة كل المذلة أن يذل الإنسان لعبد مثله فقير مسكين بخيل لا يملك لنفسه ولا لغيره حياةً ولا موتاً ولا نشوراً، {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:٧٣]، فالله سبحانه وتعالى أحق أن يرغب فيما عنده، وهو الذي يعطي وحده، وقديماً قال الحكيم: إذا عرضت لي في زماني حاجةٌ وقد أشكلت عليّ فيها المقاصد وقفت باب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إني لك قاصدُ ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد.

وكذلك يقول الآخر: لا تسألن بُني آدم حاجةً وسل الذي أبوابه التي لا تحجب فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يُسأل يغضب فلابد أن تبادر إلى مسألة الله عز وجل الذي رضي لك أن تسأله، وليس في مسألته مذلة، كل إنسان سألته حتى ولو كان أباك ففي مسألته مذلة، فإن السؤال في حد ذاته مذلة إلا مسألة الله فهي عز، فالعبد إذا تضرع لله بين يديه فهذا غاية عزه، غاية ما يصل إليه من العلم والضراعة إلى الله، {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:٤٣].

إنما ذكرناه فيما يتعلق بالتفريط في الأوقات، والمبادرة عامة في هذه الحياة كلها، لكن لكل زمان ومكان خصوصيات، فنحن الآن في نهاية هذه الدنيا، وقد خاطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (بادروا بالأعمال ستاً: فهل تنتظرون إلا غنىً مطغياً، أو فقراً منسياً أو مرضاً مجهزاً، أو هرماً مفنداً، أو الدجال فالدجال شر غائبٍ ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر).

إن هذه الأمور الستة آتية، فعلينا أن نبادرها بالأعمال الصالحة قبل أن تهاجم وتدهم، ثم علينا أن نعلم كذلك أن أوقات المصائب في الدين والتكالب عليه الوقت فيها أشح وأضيق، فأنت تعلم الآن ما يشاهده دينك من كيد أعدائه، ففعل الجاهلية في داخل الأمة الإسلامية من حصول الشقاق والنفاق والعداوات والتمزق والتشرذم يكفي وحده لضعف الدين، فكيف بالهجوم الشرس القادم من الخارج من هذه الهجمة الصليبية واليهودية والإلحادية التي لا تريد خيراً للمسلمين، ولا تريد إلا غوايتهم، فهم من جنود إبليس الذين سيكثرون في النار يوم القيامة؟! فلذلك علينا أن نبادر هذه الأوقات وأن نستغلها في الحفاظ على ديننا، فإنه إذا ذهب فلا خير في العيش بعده، لا خير في العيش في هذه الأرض بعد ذهاب الدين، ولهذا علينا أن نتمسك به وأن نعض عليه بالنواجذ قبل أن يفارقنا، وأن نعلم أن حقوق أمتنا تقتضي منا كذلك المبادرة للقيام بها، فهذه الحقوق الضائعة التي هي لهذه الأمة المشرفة العظيمة عند الله عز وجل لابد من أدائها والحفاظ عليها، فإن الإنسان يكد لينفق على أهل بيته لترتب حقوقهم عليه، فليتذكر كذلك حقوق الأمة، وليكد من أجل أداء حقوق الأمة، وتذكر قول الشاعر الحكيم: فبعد بلوغي خمس عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب ولي نظر عال ونفسٌ أبيةُ مقام على هذه المجرة تطلب وعندي آمال أريد بلوغها تضيع إذا لاعبت دهري وتذهب ولي أمة منكودة الحظ لم تجد سبيلاً إلى العيش الذي تتطلب على أمرها أنفقت دهري تحسراً فما طاب لي طعمُ ولا لذ مشرب ولا راق لي نومُ وإن نمت ساعةً فإني على جمر الغضى تقلب نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجنبنا غوايات الشيطان، وأن يجعلنا في قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

اللهم! إنا نعوذ بجلال وجهك أن تجدنا حيث نهيتنا، ونعوذ بجلال وجهك أن تفقدنا حيث أمرتنا، ونسألك أن تستعملنا في طاعتك، وأن تجعلنا أجمعين هداةً مهديين غير ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.