أما الوسيلة الثانية: فهي ما أشار الله إليه بقوله سبحانه وتعالى: {أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي}[يوسف:١٠٨]، فلا يمكن أن تنجح الدعوة إلا إذا وجدت أنصاراً وأعواناً، فدعوة الإنسان وحده لا تؤثر، وإذا أثرت يكون تأثيرها محدوداً ضيقاً؛ ولهذا فإن الله جعل لأنبياء الله أنصاراً وحواريين، يأخذون بسنتهم، وينشرون دعوتهم، ويجاهدون في سبيلها، وهذا ما بيَّنه الله في ثنائه على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عدد كبير من الآيات، فمنها قول الله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ}[الفتح:٢٩].
فلابد للدعوة من مجموعة من الناس تتبنى القيام بها، وتتحمل أعباءها، وتتعاون فيها؛ وذلك أن الله تعالى جعل الناس شرائح متنوعة، وجعل مستوياتهم متفاوتة متباينة، وكل شريحة في العادة إنما تتأثر بمن كان منها، كما أن كل أهل مستوىً انتفاعهم الغالب إنما يكون ممن هو في مستواهم، أو ممن نزل إلى مستواهم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر حين سأله في بداية الإسلام:(من تابعك على هذا الأمر، فقال: رجل وامرأة وعبد وصبي)، فكل شريحة من شرائح المجتمع قد دخلتها الدعوة بممثل عنها: فالرجل أبو بكر الصديق، والمرأة خديجة بنت خويلد، والعبد بلال، والصبي علي بن أبي طالب.
ولا تأخذ الدعوة أبعادها إلا إذا دخلت كل الشرائح؛ لأن كل شريحة إذا كان فيها ممثل، وكان فيها أسوة وقدوة لأهلها فذلك أكمل للاستجابة إلى الدعوة، ثم إن المستويات متباينة متنوعة، ومن كان مستواه ضعيفاً لا يمكن أن يستوعب دعوة ذي المستوى الرفيع إلا إذا تنزل له صاحب المستوى الرفيع، ومن كان مستواه رفيعاً لا يمكن أن ينتفع غالباً من دعوة المستوى الضعيف وهكذا، فاحتيج -إذاً- إلى جماعة لهذه الدعوة، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أهمية الجماعة لهذه الأمة، وقد صرح الله بذلك في كتابه بقوله:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ}[آل عمران:١٠٤]، بعد قوله:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران:١٠٣].
والنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ حذيفة:(تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، وقال:(من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)، وقال:(من فارق الجماعة قيد شبر مات ميتة جاهلية)، وقال:(يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذّ في النا) وقال: (يد الله على الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، وقال:(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة).
والدين كله لا يستقيم إلا بجماعة، ولهذا فالصلاة مثال للدين كله، فيحتاج فيها إلى إمام يتقدم على الناس فلا يُحرمون قبل إحرامه، ولا يركعون قبل ركوعه، ولا يرفعون قبل رفعه، ولا يسلمون قبل سلامه.
ووراءه مما يليه أولو الأحلام والنهى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، وتأتي الصفوف بعد ذلك تباعاً، الساق بالساق والمنكب بالمنكب، حتى لا تبقى للشيطان فُرجة، فذلك مثال لأمور الدين كلها.