هل بإمكانك أن تذكر نماذج من أسلافنا من هذه البلاد، وكيف كانت تربيتهم؟ وكيف حصلوا ما حصلوا عليه؟
الجواب
النماذج في طلب العلم كثيرة في هذه البلاد وغيرها، ومن النماذج البارزة الرجل الذي اشتهر بلقب مجيدري، واسمه: محمد بن حب الله بن الفاضل بن الفقيه موسى اليعقوبي فقد خرج من هذه البلاد وهو في الخامسة عشرة من عمره، وقد استوعب علوم هذه البلاد، فذهب في طلب العلم وفي طلب الحديث والحج، فلما أتى المغرب لم يجد فيه من يستطيع مناظرته، فاشتهر في المغرب كله بالعلم، حتى إن ملك المغرب كان يجمع له العلماء فلا يستطيعون مناظرته، وقد حصلت له قصص في المغرب عجيبة، فقد كتب بيده كثيراً من الكتب التي ما زال بعضها موجوداً الآن، وعندنا الآن بعض مخطوطاته بيده، أرسل كتاباً إلى أمه في ورقة صغيرة جداً مع تاجر كتب، وأرسل معه زربية وسهاماً وتسعين درهماً وعبداً، وكتب لها:(سلام بزيادة لام ماء إلى لامه، وإحدى خبر كأن في قوله ترديت إلى آخر كلامه، وإياك نعبد وإياك نستعين)، فأخذ التاجر الرسالة فقرأها فلم يفهم شيئاً مما فيها، فلما نزل على أهل الرجل سلم الرسالة إلى أمه، فلما قرأتها قالت: هات السهام والزربية والتسعين والعبد، فقال: من أين أخذتها؟ فقالت: قال: سلام بزيادة لام ماء إلى لامه، ولام ماء هاء لأنه يصغر على مويه ويجمع على أمواه، فالهاء إذا أضيفت إلى لام سلام صارت سهاماً، وإحدى خبري كأن في قوله ترديت، قالت: عرضت الشعر على ذهني؛ لأطلع على بيت بدايته ترديت وفيه كأن، فوصلت إلى قول غيلان: ترديت من أعلام نور كأنها زرابي وانهلت عليك الرواعد فعرفت أنه يقصد هذا، فكأن هنا خبرها زرابي، فمفردها: زربية، فهات الزربية.
أما إياك نعبد وإياك ونستعين قالت: فلم أفهمها، فحذفت النقاط عنها، فقرأتها بالتصحيف فإذا هي: أتاك بعبد وأتاك بتسعين، قرأتها بدون نقط.
وحين أتى هذا الرجل إلى مصر يحمل كتاباً من ملك المغرب، جمع له ملك مصر عشرة من علماء الأزهر لمناظرته، فقال له الملك: اليوم يوم التعارف، فكل واحد يعد لنفسه عشرة آباء، فعد كل عالم من علماء مصر عشرة آباء لنفسه، وعد مجيدري عشرة آباء لنفسه، فلما كان من الغد اجتمعوا بين يدي الملك، فكان كلما سلم عليه واحد منهم، قال: السلام عليك يا فلان ابن فلان ابن فلان ابن فلان حتى يكمل سلسلته حتى أتى على مائة أب، كل واحد عد له عشرة، ولم يتذكروا هم اسمه، لكن لعامل اللغة تأثير في هذا فـ مجيدري بن حب الله بن الفاضل أسماء صعبة الضبط، فلذلك لم يتذكروها، فأعجب الملك بهذا، ولم يستطع العلماء مناظرته، فسأله: أن يتقبل منه جائزة، قال: جائزتي أن تفرغ لي دار الكتب المصرية أسبوعاً كاملاً لا يدخل عليّ إلا من يخدمني، ففرغها له حتى درس ما فيها من العلوم النادرة التي لم تكن ببلاده، ولذلك رجع إلى هذه البلاد مجدداً مصلحاً في مجال الاعتقاد ومجال السلوك ومجال الفقه، وقد كتب لعلماء هذه البلاد أسئلة، وهي الإثنا عشر المشهورة التي أسكتت العلماء، ولم يستطع أحد منهم جوابها، وكان من هذه الأسئلة الإثنا عشر: ما الفرق بين الشافعي وابن القاسمي؟ أليس كل واحد منهما تلميذاً لـ مالك؟ فهذا السؤال محرج للمقلدين في زمانه، فلم يستطع أحد منهم جوابه.
ونظم أبياته في الإيمان بأسماء الله وصفاته دون تعطيل ودون تأويل فكتبها بالزعفران وهي الأبيات السبعة المشهورة التي شرحها الشيخ محمد المامي في قصيدته الزعفرانية، وهذه الأبيات على وفق عقيدة السلف الصالح، وقد نظمها عندما زعموا أنه مبتدع حين دعا إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة وعقيدة السلف الصالح قال: لو كنت بدعياً لما كان الصواب عندي الأحاديث الصحاح والكتاب وقد ربى مدرسة عظيمة تربت على منهجه، ومن مشاهير طلابه المأمون بن عبد الله المجاور الذي اشتهر بخلافة نجيدي بعده ورئاسة المدرسة، وقد كان من المشاهير في حفظ الأحاديث، كان يحفظ الصحيحين حفظاً متقناً، ولذلك حين توفي رثاه الشيخ محمد المامي في قصيدته التي مطلعها: ريع تقاصر دونه لبنان ويهون دون ترابه المرجان يا ريع لو نبت الحديث ببلدة نبت الحديث عليك والقرآن فجعل الشيخ محمد المامي المأمون بمثابة البذر بذر القرآن والسنة، إذا بذر في مكان ودفن فيه، ينبت عليه الكتاب والسنة.
وغير هؤلاء كثر، وقد أجهد أقوام أنفسهم في سبيل هذا العلم، فأنفقوا فيه أوقات طائلة، كالشيخ الذي خرج من عند أهله وعمره أربعون سنة، وتغرب لطلب الحديث وطلب الفقه والأصول، ومكث في طلب العلم عشرين سنة، وما رجع إلى أهله إلا بعد الستين، ومكث أربعين سنة ينشر هذا العلم الذي جاء به، فعاش مائة وزيادة، ولذلك يقول فيه ابن أحمد دان الحسني في وصفه: ما للمشيب وفعل الفتية الشببة وللبيب يواصي في الصبا خببه آنت لذي شمط الحذين رجعته إن القتير ليحمي ذو النهى طربه لما تأوب لي من طول ما جمحت نفسي هموم رمت صبري بما سلبه ناجيت فكري وقد أمعنت من نظري ثم استمر بي الرأي الذي اكتسبه أن يممت شرف الدين الكمال بنا علياء تعتسف الآكام والهضبة حتى وضعت عصاسيري بباب فتى يأوي الطريد ويولي الراغب الرغبة من نبعة طيب الباري أرومتها بيتاً أحل ذرى المجد العلا نسبه حارت أناس بجدوى حاتم ولقد نرى سخاء كمال الدين قد غلبه أحنى على الشعف والأيتام من نصف على صغير لها قد أكبرت عطبه أشد عند تمادي أزمة فرحاً بالمعتفين من العافي بكل هبة يلقى العفاة بوجه من سماحته كالهندوان تجلو متنه الجلبه وإن ألم به ضيف فمرتحل يثني وكان حميد الظن إذ رغبه ولى يفرق مدح الشيخ في فرق شتى ويكثر مما قد رأى عجبه رأى هنالك أخلاق الكرام إلى زي الملوك وزي السادة النخبه رأى مصرعة الأنعام قد قسمت بين الصفيف وبين الجونة الرحبه رأى العفاة على باب الكمال كما يرى الدثور على قلبه من معتف وأخي حوجا ملتمس فصل القضا ومريد كشف ما حجبه أو كشف مسألة والكل قد وسعت جفانه ولكل منه ما طلبه فالله بارك في نفس الكمال وفي ما الله موليه من قصوى ومقتربه إن تستبق حلبات المجد راكضة نحو المعالي تراه سابق الحلبه لا يضمر الضغن من جار أساء ولا من المصاحب يوهي صبر من صحبه أما الرقاع فأعلاق يجود بها والسير نصح بليغ يبتغي القربه رآه ذو العرش علام الغيوب لذا أهلاً فساق إليه قبله سببه علماً وفهماً يصيد المشكلات به درك الطبرة من سرب المها عطبه ومص كل من مخيرة در تخيره للملك من ثقبه لما تغلغل في علم الشريعة من صافيه أعمل في نيل العلى نجبه شد الرحال على كوم العتاق إلى تاج الأئمة من ساداتنا النخبه فنال ما نال إذ حط الرحال وما أدراك ما نال يا واهاً لها رتبه فأصبح الشيخ مسقى كل ذي ظمأ كما يصبح مسقى دجلة القلبه إلى آخر ما قال.
ومثل ذلك مسك بن بارك الله الذي ذهب في طلب الحديث وطلب العلم، واشتغل بذلك زماناً طويلاً، وخاض الحواضر العلمية حتى رجع بما رجع به من العلم كإجازة ابن ناصر الدرعي.
ومثله عبد الله الحاجب المبارك الذي ذهب أيضاً إلى مصر والحجاز والعراق والشام وأتى بعلم كثير، وكذلك شيخ الشيوخ ابن أبي الفاضلي الحسني الذي اشتهر في هذه البلاد بعلو الإسناد، فهو الذي نقل علم علي الأجهوري إلى هذه البلاد حديثاً وفقهاً وأصولاً، وغير ذلك.
فهؤلاء بذلوا في سبيل الحصول على هذا العلم جهداً كبيراً وتعباً ومشقة، فلذلك وصلوا إلى مبتغاهم، ولهذا كان الشيخ سديه كثيراً ما يتمثل بقول الشاعر: ما ابيض وجه باكتساب كريمة حتى يسوده شحوب المطلب