للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عدم التعصب والاحتكار]

الأدب السادس: عدم التعصب والاحتكار: فلابد أن ينطلق المتناظران المختلفان من مبدأ طلب الحق والاستسلام له إذا ظهر، والرجوع إليه إذا استبان، فإذا أتيا وكل واحد يريد أن يفرض قوله على صاحبه، ويحتكر الحق لنفسه، ولا يريد أن يغير موقفه بحال من الأحوال؛ فلا يمكن أن يتفقا بوجه من الوجوه، وهذا التعصب مقيت مذموم.

وقد كان مالك رحمه الله يقول في مسائل اجتهادية: {إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:٣٢]، ويقول: (ما منا أحد إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم).

واحتكار الحق فيه خطورة عظيمة؛ لأنه يقتضي من الإنسان أنه يدعي العصمة لنفسه، والشافعي رحمه الله يقول: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، أي: الصواب عندي يحتمل الخطأ؛ لأنه ليس منزل من عند الله، وإنما هو اجتهاد مني أنا، ورأي غيري خطأ عندي -لأن الحق لا يمكن أن يختلف اختلاف تضاد- يحتمل الصواب -لأنه اجتهاد شخص محترم كذلك-.

ومن هنا كان العلماء يحترم بعضهم أقوال بعض احترامًا عجيبًا، فهذا أبو يوسف صاحب أبي حنيفة مذهبه أن العلة القاصرة لا تصلح للتعليل، وأن أي نجس خرج من البدن ناقض للوضوء إذا تفاحش، فقرر ذلك يومًا في مجلسه فقال له رجلٌ: أرأيت إن كان الإمام قد جرحت ساقه فخرج منها دم فتفاحش، فصلى بالناس من غير وضوء أأصلي وراءه؟! قال: (سبحان الله! ألا تصلي خلف مالك؟!).

فـ مالك كان يرى أن العلة القاصرة تصلح للتعليل، وأن الناقض إنما هو ما خرج من أحد السبيلين فقط، وأن ما سواه من النجاسة لا ينقض الوضوء.

وكذلك فإن الإمام أحمد رحمه الله عندما سئل عن تعليق الطلاق على النكاح: ذكر أنه لا ينفذ، قيل: أرأيت إن مررت بحلقة المدينة فأفتوني بخلاف ما تقول فآخذ بقولهم؟! قال: (سبحان الله! ألا تأخذ بقول مالك؟!).

فقد كان جمهور أهل السنة يحترمون أقوال المجتهدين ويقدرونها، ولهذا قال الشافعي: (لا أرد شهادة أحد من أهل الأهواء، إلا الخطابية؛ فإن من مذهبهم أنهم يستبيحون الكذب لنصرة من وافقهم في مذهبهم).