وبذلك يعلم في هذه العصور المتأخرة التي ركن الناس فيها إلى جمع الأصوات، وتحاكموا فيها إلى الحكم الديمقراطي، يعلم أن رغبة المسلمين وكثرتهم الكاثرة إنما هي في دين الله، وأن من أراد أن يحصل على أصواتهم ويصل إلى رغباتهم فليحقق دين الله سبحانه وتعالى وليطبقه عليهم، وأنهم لا يرضون قانوناً سواه، وأنهم ينبذون ذلك ويخالفونه، ولا يمنعهم من الإعلان بذلك أي مانع، فلا يمنعهم من إظهار الحق حياء ولا عجز ولا مسكنة، فهم الذين أعزهم الله بالإيمان، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولا يمنعهم خوف، فهم الذين يعلمون قول الله تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران:١٧٥]، ولا يمنعهم طمع، فهم الذين يقرأون قول الله سبحانه وتعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة:٢٨]، فلذلك على من يريد سيادة المسلمين أو يريد جمع أصواتهم أن يطبق عليهم شرع الله سبحانه وتعالى، وأن يعز دين الله سبحانه وتعالى، وأن يعلم أن كل ما سوى ذلك لن يجد مساحةً في قلوب المسلمين المخلصة المؤمنة المنيبة التي تتذكر الموت وتتذكر أنها مهما داهنت ومهما استكانت ومهما انصرفت عن الحق فإن ذلك لا يمكن أن يكون جواباً بين يدي الله سبحانه وتعالى، تعلم أن الموتة واحدة وأنها مفروضة على كل بني آدم.
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلةٍ حدباء محمول يعلمون أنهم جميعاً صائرون إلى الموت، وأن موتتهم واحدة، وبذلك لا يهمهم ولا يحزنهم شيء من مصائب هذه الدنيا، ولا يزنون لذلك أي ميزان في مقابل سخط الله، فهم يعلمون أنهم لو عذبوا طيلة أعمارهم في هذه الدنيا ثم كان بعد ذلك الجنة فإنهم لم يخسروا شيئاً، ولو تنعموا طيلة أعمارهم في هذه الدنيا بأعلى ما فيها من أنواع النعيم ثم كانت بعد ذلك النار فإنهم لم يربحوا شيئا، ولذلك قال خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم:(واعلموا أنه لا خير بخيرٍ بعده النار، ولا شر بشرٍ بعده الجنة).
إن المؤمنين إذا حققوا هذا في أنفسهم فقد انطلقوا على الطريق الصحيح وساروا عليه، فمن عاش منهم عاش عزيزاً، ومن مات منهم مات على الحق وهو سائر في مرضات الله سبحانه وتعالى وعلى منهج رسوله صلى الله عليه وسلم، أما من لم يحقق انتمائه ولا ولاءه، بل قال: إنه مع السائرين.
وينظر إلى الكثرة الكاثرة ويغتر بأهل الدنيا وما هم فيه، فإن حضر الصلاة في المسجد وسمع إعلاناً عن كلمةٍ أو درسٍ قال أستمع وأحضر.
ولكنه لا يريد أن ينطلق بشيءٍ إلى بيته مما هنالك، فيفسد وقته في غير طائل، وتقوم عليه الحجة ببعض ما يسمع، وينطلق إلى بيته ولم يأخذ معه شيئاً لا في يده ولا في قلبه، إن هؤلاء إنما هم من الغثاء الذي يعلو على سطح الماء ثم يزول، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد:١٧].
إن على المؤمن أن يحقق قول الله سبحانه وتعالى:{فَبَشِّر عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر:١٨]، وليعلم أن سعيه في تعليم الناس ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان عاجزاً عن تعليمه أو تعلمه كأن يكون شيخاً كبيراً فانياً قد ولى شبابه وانقطعت قريحته، أو كان مشتغلاً بتجارته ولا يستطيع أن يعلم ولا أن يتعلم فإن عليه أن يعين متعلماً، وبذلك يكتب له مثل ثوابه، ويكون قد عمل للإسلام، وإن كان لا يستطيع أن يجاهد في سبيل الله بيده، ولا يستطيع أن يكون تحت بارقة السيوف في الصفوف الأمامية وأن يحل أزرار قميصه لاستقبال الرصاص ويقول:{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}[طه:٨٤] إن لم يستطع ذلك وحالت بينه وبين ذلك نفسه الضعيفة أو شيطانه فإن عليه أن يجاهد بماله وأن يبذله في سبيل الله، فإن كان لا يستطيع هذه ولا تلك فإن عليه أن يجاهد بلسانه وهو سلاح الضعفاء، عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وإذا رأى خيراً حاول أن يعد من أهله وأن يكون بذلك مناصراً للحق ساعٍ فيه مهما كان.