لا شك أن الفضل العظيم للعلم الذي نوه الله به في كتابه ونوه به رسوله صلى الله عليه وسلم، مقتضٍ من ذوي الهمم العالية الراغبين في رفع الدرجات، أن يبادروا وأن يتنافسوا، وأن يستغلوا الأوقات -قبل ضياعها- للالتحاق بالرعيل الذي انطلق، وبالركب الذي سار.
فهذه الدنيا مدتها ضئيلة يسيرة، وقيمتها هي الوقت الذي يمضيه الإنسان فيها، ومن لم يستغل هذا الوقت كان وبالاً عليه بين يدي الله؛ لأن الله يخاطب أهل النار يوم القيامة فيقول:{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}[فاطر:٣٧].
لابد أن يتفكر المسلم أنه جاء إلى الأرض وليس من سكانها الأصليين ولا من أهلها، وإنما أهبط إليها إهباطاً من الجنة، وجاء لمهمته العظيمة بتأشيرة مدتها محددة، فعليه أن يؤدي عمله قبل أن تنتهي تأشيرته ويرجع، فالذي ذهب بتأشيرة مدتها محدودة، وتكلف التكاليف، وقطع المسافات، ثم رجع خائباً ولم يؤد أي عمل مما خرج من أجله؛ لا يمكن أن يعد رابحاً بأي مقياس من مقاييس الدنيا؛ فلذلك علينا أن نتذكر أننا جئنا هنا من أجل مهمة محددة، حددها الله في كتابه فقال:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:٥٦]، وأن مدة بقائنا في هذه الدار محصورة، قال الله تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[المؤمنون:١١٥ - ١١٦].
فنحن راجعون إلى الله لا محالة، ومسئولون عن هذه المهمة التي من أجلها أهبطنا إلى هذه الأرض، ولا يمكن أن يدعي أحد منا أنه لم يؤت الوسائل، فقد أتاح الله لنا من الوسائل، وسخر لنا من النعم ما لا يمكن أن نحصيه، سخر لنا الليل والنهار وما فيهما، وسخر لنا السماء والأرض والبحار والأنهار والجبال والسهول، وجميع ما في هذه الأرض جعله مسخراً لعبادته وطاعته؛ ولذلك يمكن أن يستفيد الإنسان في عبادته من كل شيء في الأرض، قال بعض أهل العلم: ما من شيء في الأرض إلا وهو معين لابن آدم على عبادة ربه، إن كان فيه نفع انتفع به في قوة بدنه أو عقله، وإن كان فيه ضرر كان امتحاناً له ليثبت ويصمد، وإن لم يكن فيه نفع ولا ضرر كان فيه اعتبار وتذكر، وفي الجميع منافسة؛ لأن جميعها مسبحة لله، وجميعها ساجدة لله:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}[الإسراء:٤٤]، فتستشعر أن ثوبك ينافسك في القرب من الله والسجود له والتسبيح بحمده، وأن شعرك ينافس لسانك، وأن كل عضلة من عضلاتك وكل ذرة من ذراتك هي منافسة لك في التقرب إلى الله بالعبادة، كما تستشعر المنافسة من إخوانك وبني جلدتك والبشر جميعاً، فالله تعالى يقول:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[الإسراء:٥٧]، فالجميع يتنافسون في القرب منه وفي عبادته وطاعته، وإذا استشعر الإنسان ذلك أحس أن كل ما في الأرض مهيأ ومسخر ليعينه على طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته، وأبلغ الطاعات والعبادات هي ما أوجب الله سبحانه وتعالى، كما قال:(وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، وما افترضه الله لا يمكن أن يعرف ويميز بينه وبين غيره إلا بالتعلم.