[الصبر على المغريات كالصبر على البلاء]
ومثل هذا: الصبر أمام الإغراءات المختلفة، فما نذكره من الصبر أمام البلاء والمحن مثله الصبر أمام الإغراءات المختلفة في أمور الدنيا، فوسائله هي هذه الوسائل أيضاً، وأن يتذكر الإنسان أنه يعجب كثيراً بأولئك الذين يصمدون ويصبرون أمام الإغراءات ولا ينجذبون وراءها، وأنهم هم الأبطال الذين يثني الناس عليهم ويخلدهم التاريخ، فذلك مقتضى منه أن يقتدي بهم ويسير في ركابهم.
وهذا أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان حين أراد غزو العراق لقتال مصعب بن الزبير رضي الله عنهما بكت أم أولاده، وحزنت لذلك وأرادت أن يؤمر رجلاً على الجيش وأن يبقى هو في الشام في مأمن من هذه الغزوة فقال: قاتل الله كثير بن عبد الرحمن لكأنه ينظر إلينا الآن حين قال: إذا ما أراد الغزو لم تثن همه حصان عليها نوم در يزينها نهته فلما لم تر النهي عاقه بكت فبكى مما شجاها قطينها وكذلك عندما كان في حرب ابن الأشعث أهدى إليه أحد امرأته جارية فكلمها، فأعجب بثقافتها وذكائها وبشكلها وأدبها فباتت عنده فكف نفسه عنها وقال: والله ما يمنعني إلا أبيات لأحد العرب، فلو اقتربت منك لكنت ألأم العرب، والأبيات هي قول الشاعر: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم دون النساء ولو باتت بأطهار فقال: فلو اقتربت منك لكنت ألأم العرب، وهو يتذكر هذه الأبيات.
ولا شك أن الصمود أمام المغريات هو مثل الصبر في الابتلاء والمحن، لأن الابتلاء يكون بالخير وبالشر، كما قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:٣٥].
فيحتاج الإنسان إلى تذكر هذه الوسائل ومعرفة عاقبة الصبر ليقتضي ذلك منه الاستمرار على منهج الحق وما يعي، وأن يعلم أنه إذا انهار فلن يتحقق له شيء، وإنما يهدم كل شيء كان قد أحرزه من قبل، وجزعه مذلة له وخنوع أمام الآخرين، والموت في حال العزة خير من الجزع والحياة الذميمة، ولهذا قال أبو تمام في مرثيته لـ محمد بن حميد كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم ترق ماءها عذر توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السَفَرُ السفْرُ وما كان إلا زاد من قل ماله وذخراً لمن أمسى وليس له ذخر تردى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضر فتى مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصر فهذا البيت عجيب جداً: فتى مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصر فأغرز في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشر فعلى الإنسان أن يعلم العاقبة والنتيجة المترتبة على الصبر في الدنيا والآخرة، فهو في الدنيا جميل حميد، وصبره لن ينقص شيئاً من أجله ولا من عمله ولا من مكانته ولا من رزقه، ومقامه في الآخرة سيرتفع ويزداد عند الناس كذلك بذكره وإعلاء منزلته، وقديماً قال الشاعر: أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر فلا بد أن يتذكر الإنسان نفاذ القدر واستمراره، وأن يعلم أن علياً رضي الله عنه حين سئل عن الشجاعة ماهي؟ قال: صبر ساعة.
فإذا كان الإنسان يستطيع الصبر ساعة على البلاء فعاقبة ذلك محمودة جداً، ومكانه رفيع، والإنسان لن ينال ذلك المقام الرفيع حتى يجتاز قنطرة الصبر على المحن والبلايا، ولهذا قال الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٣٩] * {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:١٣٩ - ١٤٨].
ويكفي من ذلك محبة الله سبحانه وتعالى للصابرين، وعلى الإنسان أن يعلم أن الموتة التي كتب الله عليه واحدة، وستناله مهما كانت حاله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:٧٨].
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب وقديماً قال الشاعر: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يثبتنا على دينه وأن يلزمنا التمسك بالسنة عند فساد الأمة، وأن ينصرنا على أعدائه وأعدائنا، وأن يجعلنا قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يغنينا بأجر الشكر على النعمة عن أجر الصبر على النقمة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:٣٢] تبرأت من حولي وقوتي واعتصمت بحول الله وقوته.