[عمر التمكين وكيفية استغلاله]
العمر الثالث: هو عمر التمكين.
فإن الله سبحانه وتعالى أتاح لنا في هذه الدنيا كثيراً من الإمكانات، التي مكن لنا فيها، ولها أعمار محددة كأعمارنا نحن وآجالنا.
للإنسان جوارح هو ممتع بها اليوم، لكن لها آجال تنتهي إليها، فهذا البصر له أجل ينتهي إليه، سواءٌ أكان ذلك الأجل بالموت أم بما قبله، فكم من إنسان نام على فراشه ممتعاً بسمعه وبصره ثم استيقظ وقد أخذ الله بصره، أو أخذ سمعه، أو شل جهازه العصبي فاستيقظ وهو لا يتصرف في شيء من بدنه.
إن نعمة التمكين في هذا البدن نعمة عظيمة، نعمة التصرف، ولا يدركها إلا من رأى الآخرين يسلبون هذه النعمة، من رأى أن أقواماً كانوا أقوى منه أبداناً وأبلغ عناية بصحتهم، ومع ذلك ينام أحدهم يتقلب على فراشه يميناً وشمالاً معافىً في بدنه فيستيقظ وليس به حراك، أو يستمر في نومته تلك فيزايله عقله إلى أن يموت، إنها نعمة عظيمة، نعمة العقل والجوارح، ولها آجال محددة، فعلى الإنسان أن يستغلها فيما يرضي الله قبل زوالها، وبئس العبد الذي لا يعرف النعمة إلا بزوالها، لا يعرف النعمة بدوامها وإنما يعرفها بزوالها.
كذلك فإن ما مكننا الله سبحانه وتعالى فيه مما جعل تحت أيدينا من الأموال والوظائف والعلاقات له آجال محددة؛ لأن الإنسان قد يعين في وظيفة وفي علم الله أن لتلك الوظيفة أجلاً مسمى، فإذا لم يبادر لاستغلالها فيما يرضي الله فستكون عليه حسرة وندامة، ويخرج منها صاغراً، وكذلك فإن ما يجعله الله تحت أيدينا من الأموال له آجال محددة؛ لأن المال مال الله ليس مال الناس، والإنسان فيه وكيل ينتظر العدل في كل حين، ولهذا قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:٧]، وعدله إما بموته، أو بإزاحة ماله، أو بفرض الحصار عليه، أو بفرض الحجر عليه بأن يفلس، كل هذا ممكن، ونحن نشاهده ونراه في كثير الناس، وإذا علمنا ذلك وأيقناه وشاهدناه فإن هذا مقتض منا أن نستغل ما جعل الله تحت أيدينا، وأن ننتهز الفرصة ما دام ذلك ممكناً.
كذلك العلاقات التي يهبها الله لمن شاء من عباده لها آجال محددة، والله يسأل عن صحبة ساعة، فالساعة التي تمضيها جالساً إلى شخص أياً كان هي علاقة حصلت بينك وبينه، إذا لم تؤد حق الله فيها وتنصح وتأمر بالمعروف وتنه عن المنكر فقد ضاعت هذه الفرصة وانتهت، ويمكن أن لا تلتقي مع هذا الشخص أبداً.
ولله عينا من رأى من تفرق أشت وأنأى من فراق المعصب فريقان منهم سالك بطن نخلة وآخرُ منهم جازع كبكب فجلوسنا يمكن أن يعقبه افتراق إلى غير رجعة، وعلى هذا فمن حق الله علينا إذا جلسنا أن يذكر بعضنا بعضاً في ذات الله، وأن ينصح له، وأن لا تفوت هذه الفرصة، وأي ساعة يسأل الله عنها إذا استغلت في غير طائل، فكم عرف كل واحد منا من الأصدقاء الذين صحبهم زمناً وقد حال الموت بينه وبينهم، ولا يتذكر أنه قد أدى إليهم حق النصيحة في يوم من الأيام ولا في ساعة من الساعات! وهم خصومه يوم القيامة، فيجادلونه بين يدي الله: رأيتنا على كذا فلم تنهنا.
فلذلك علينا أن نستغل هذه الفرص، وأن لا ندعها تضيع.
ثم بعد ذلك فإن مما مكننا الله سبحانه وتعالى فيه ما نجده في حياتنا هذه من الاتساع والطمأنينة والأمان الذي يوشك أن يتغير، وأحوال الدنيا غير ثابتة، فهي متغيرة لا محالة، هي عرض سيال جار، ومن هنا فكل ما فيها متغير، فعلينا أن ننتهز فرص ما مكننا الله سبحانه وتعالى فيه، وأن نعلم أن له أعماراً محددة ينتهي إليها، ولهذا فلنتذكر الصوارف التي تشغلنا ونحاول التغلب عليها.
وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن مما يكفر السيئات وترفع به الدرجات انتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد، وكثرة الخطا إلى المساجد، وإسباغ الوضوء على المكاره، لكنَّ قليلاً منا من يستطيع انتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد، مع علمه بما أعد الله لمن فعل ذلك، ويعلم أن الملائكة تصلي عليه في مجلسه تقول: اللهم! اغفر له، اللهم! ارحمه.
ودعاء الملائكة مستجاب.
كثير منا تعترضه الأشغال وتأتيه الوساوس والأوهام الصارفة له عن اغتنام هذه الفرص، مثل الجلوس ما بين صلاة المغرب والعشاء فقط، وهو وقت يسير ومحصور، مع علمه بحاجته إلى دعاء الملائكة، كل واحد منا اليوم إذا رأى أي مسلم من المسلمين يظن به الخير يحاول أن يستخلص منه دعوة صالحة لعله يستجاب لها، فكيف بدعاء الملائكة المقربين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؟ إنها فرص عظيمة تفوت وتزول دون أن تستغل، وإن الإنسان إذا جلس يحاسب نفسه على هذه الفرص النادرة سيجد خسارة عظيمة لا تقدر بثمن، إن عمر التمكين هذا يزول بالتدريج والتقصير، فما ينتقص من بصرك لا تشعر به إلا إذا وصلت إلى حد المعاناة في القراءة مثلاً، أو في إدراك الأشياء، وهكذا ما ينتقص من رزقك، وما ينتقص من كل ما جعل الله تحت يدك يأتي انتقاصه بالتدريج والتقصير.
ولهذا يمكن أن تكون قد بدأت بالعد التنازلي وأنت لا تشعر، كما قال الله تعالى: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف:١٨٥]، فعلى الإنسان أن يبادر، وأن ينتهز هذه الفرص قبل فوات الأوان، وأن يعلم أن الرشيد العاقل هو الذي إذا جاءه النذير وفهم وتدبر استفاد من ذلك، أما من لا يتعظ ولا يعتبر، أو إذا سمع الموعظة والعبرة تذكرها في وقت السماع ثم انصرف ونسيها ولم تؤثر في عمله فهذا ليس صاحب عقل ولا صاحب إيمان؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:٥٥].
ولذلك فإن حاجة الإنسان إلى الذكرى هي مثل حاجته إلى الغذاء والماء.