ثم بعد هذا مقام آخر، وهو مقام الرجاء والتوكل، الذي يقتضي من الإنسان أن يعلم علم اليقين أن الله لا يخلف الميعاد، وأن وعده هو الحق لا ريبة فيه، وأنه هو الذي في قبضته السماوات والأرض ومن فيهن، وهو الذي القلوب بين أصبعين من أصابعه، وهو الذي النفوس كلها في يده، ومن هنا فينظر إلى من خالفه في ذات الله نظرة المشفق الوجل، لعلمه أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً ولا حياة ولا موتا ولا نشوراً، فينظر إليه هذه النظرة، وهذا المقام هو الذي وقف فيه نوح عليه السلام حين قال لقومه:{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ}[يونس:٧١] وكذلك هود عندما قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[هود:٥٦] وهذا المقام هو الذي تحلى به إبراهيم عندما رموه في النار فقال الله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[الأنبياء:٦٩] وتحلى به محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ}[آل عمران:١٧٣ - ١٧٤].
فأنت اليوم تهلع وتطمع وتخاف وترجو وأنت تزعم أنك مؤمن، والسبب أنك ما وصلت إلى هذا المقام، ولهذا يذكر عن أبي الحسن الشاذلي أنه حين أتى الإسكندرية استقبله علماؤها، فسألهم فقال: أتصلون؟ قالوا سبحان الله أنترك الصلاة؟ قال: أفتهلعون وتطمعون؟ قالوا: نعم، قال: إذاً أنتم لا تصلون، فالله تعالى يقول:{إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[المعارج:١٩ - ٢٢].
والمقصود بذلك: المصلون الذين صلاتهم هي الصلاة الحقيقة الكاملة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ففيها تذوق لآيات الله، وإدراك لعجائب خلقه، ومقارنة بين ما يشاهد من الآيات المنيرة وبين ما يسمع ويتدبر من الآيات المذكورة:{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف:١٠٥ - ١٠٦].