للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق بين الديمقراطية في الغرب والديمقراطية في العالم الثالث]

ثم إن الديمقراطية بعد أن كانت فكرة يونانية في الأصل تداولتها الأمم والحضارات، واختلف تطبيق الناس لها من طور إلى طور، واختلفت تأليفاتهم لها من وقت إلى وقت، وفي زماننا هذا ليست الديمقراطية ديمقراطية واحدة بل هي ديمقراطيتان: ديمقراطية غربية.

وديمقراطية في بلدان العالم الثالث.

أما الديمقراطية الغربية فإنها تقوم على أساس العدالة الاجتماعية في توزيع الفرص بين الناس، وعلى أساس أخذ الرأي المشترك، وعلى أساس التداول على السلطة عن طريق التصويت، وعلى أساس تحديد ركائز الحكم وأركانه، وتحديد الصلاحيات للحاكم في كل أمر يقوم به، وهي بهذا المعنى خير الأنظمة الفاسدة، ففيها مزايا تكون بها خيراً من الاستبداد، وخيراً من اغتصاب الحقوق من الناس، وخيراً من الظلم السافر، فهي خير أنظمة الحكم الفاسدة، فمن أجل هذا قد يضطر إليها المسلمون في حال من الأحوال، أو يضطرون إلى المشاركة فيها، فيكون هذا من باب ارتكاب أخف الضررين والحرامين، وهو جائز لقول الله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:١٠٨]، ولقوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:٧٨]، فإن تزويج الكافر بالمسلمة محرم ولكن الاعتداء على الملائكة أعظم منه وأشد حرمة، فلذلك بدأ بالحرام الذي هو أقل حرمة، وقدمه على الحرام الذي هو أشد منه.

وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض على بني غطفان عام الأحزاب أن يرجعوا عنه وأن يعطيهم ثلث ثمار المدينة، وإن كان محرم على المسلمين أن يدفعوا أموالهم لأعدائهم الكافرين ليستعينوا بها على قتالهم، لكنه من ارتكاب أخف الضررين والحرامين، فإذا اضطر إليها المسلمون وعجزوا عن إقامة الأسلوب الإسلامي للحكم فهي أحسن الأساليب الأخرى غير الإسلامية.

أما الديمقراطية لدى العالم الثالث فتختلف عن الديمقراطية الغربية، وسأبين بعض أوجه الاختلاف: فالديمقراطية في العالم الثالث هي عملية تجميل للاستبداد والغصب والغش والتزوير، وتظهر على أنها قائمة بأسلوب الديمقراطية وأنها مشاورة للناس، وأن كل الناس يشتركون فيها، ومن أجل هذا تطبل لها الطبول ويجتمع حولها الناس، ويظنون أنهم يتشبثون بشيء أو أن لهم شيئاً من الأمر، والواقع خلاف ذلك، وإنما يخدع بها ضعاف العقول وضعاف الثقافة، والذين لم يروا الديمقراطية على وجهها في البلدان التي طبقت فيها، ومن هنا فهذه العملية عملية التجميل لا تنطلي إلا على البلهاء البلداء، فهم الذين يظنونها ديمقراطية وينخدعون بها، وإلا فما هي إلا استبداد سافر وتزوير صارخ، وأخذ لأموال الناس وإهدار للطاقات في غير فائدة.

ونتائجها محسومة في البداية، وأسلوبها محدد من قبل، والإنسان فيها لا يصوت حسب قناعته، وإنما يصوت خوفاً أو طمعاً، وليس فيها أي عائد راجع إلى الأمة، فالذي يصوت لا يعتبر نفسه مؤدياً خدمة للأمة، ولا محققاً لهدف من أهدافها، ولا محافظاً على شيء من كرامتها أو كيانها، وإنما يعتبر نفسه مناصراً للشخص الفلاني ليكون هو الممسك بزمام الدولة الفلانية، أو الممسك بزمام ابادية الفلانية أو غير ذلك من الأمور.

ومن هنا تجدون الصراع الذي فيها يختلف تماماً عن الصراع في الديمقراطية الغربية، الصراع في الديمقراطية الغربية ليس على أساس البهرجية والأصوات والأغاريد والأغاني، وإنما هو على أساس البرنامج الذي يتعهد به المترشح، فالمترشح يشرح برنامجه ولا يبالغ ولا يعد الناس وعوداً كاذبة؛ لأنه يعلم أنه ستسجل عليه هذه الوعود وستناقش، فيسجل الوعود التي يستطيع الوفاء بها من خلال الصلاحيات الممنوحة له.

وأنتم تعلمون البرامج التي تشاع في العالم الثالث بالديمقراطية، فإن كل إنسان يأتي ويعد الناس بأنه سينقلهم من دار الفناء إلى دار البقاء، ويحملهم إلى الجنة، أو أنه سينتقل بهم نقلة حضارية عجيبة، لكن أين وسائلها؟ أين المال الذي سيوظف به الناس ويجعل لهم فرصاً للعمل؟ أين المال الذي سيبني به البنى التحتية؟ هذه أمور لا يفكرون فيها، وأين الرجال الذين سيقومون بهذه المصالح؟ المترشح فرد وهو المستفيد ولا ينظر إلى من حوله، وإنما يختار من ناصره فقط، يختار من يقول: نعم، ولا يدني من يقول: لا.

أما لدى الغربيين فإن الناس إنما يصوتون على أساس البرنامج الانتخابي المقدم، ليس على أساس معرفة ولا علاقة شخصية ولا مصالح شخصية، بل يقدمون مصالح بلادهم على مصالحهم الشخصية، ولذلك تجدون المهزوم يسلم مفاتيح القنابل الذرية للناجح الذي انتخب مكانه بكل رحابة صدر، وهو بيده مفتاح القنابل الذرية، وكان بالإمكان أن يفني خصومه في لحظة، ولكنه اقتنع بهذا الأسلوب واقتنع بمصلحة هذا البلد وبكيانه، ودخل ذلك في مخه وتفكيره، فيرجع هو ويأخذ سيارة التكسي، ويعمل في أي وجه من وجوه الاكتساب.

بخلاف الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، فمن وصل إلى الحكم لا يمكن أن يتركه بوجه من الوجوه، سيستمر فيه إلى أن ينقل إلى قبره؛ لأنه يمسك مفاتيح الأبواب كلها، فيوصد الأبواب التي لا توصله هو إلى مقتضاه وما يبتغيه، ويفتح الأبواب التي توصله إلى مقصوده فقط، ولذلك قوانين الانتخابات، وتوزيع الدوائر، وتوزيع الأصوات، وشروط الناخبين، هذه كلها يتحكم فيها الذي يريد أن يجعلها وفق ما يضمن له النجاح.

أما في بلدان الغرب فهذه متفق عليها مسبقاً، ولا يمكن أن يقع فيه تبديل ولا تغيير إلا بموافقة الجميع.

وأيضاً حتى الحملة الانتخابية التي يقومون بها تكون منضبطة بأخلاق، ليس فيها تبذير ولا إتلاف أموال؛ لأن الذي يريد الترشح يعرف أنه لو وصل إلى الحكم، أو لو وصل إلى البلدية، أو لو وصل إلى أي وظيفة يراد التنافس عليها، فإن تلك الوظيفة لن تدر عليه مطراً من الذهب، وإنما له راتب محدد يعرفه، وهذا الراتب لا يمكن أن يفي بتمويل هذه الحملات المكلفة جداً، فلذلك يقتصر في الحملات على شرح برنامجه الانتخابي في أماكن وجود السكان، وفي مكان الكثافة السكانية وأماكن المثقفين، واستغلال وسائل الإعلام في ذلك.

لكن نظراً لأن وسائل الإعلام قد تكون مكلفة فإن الدول الغربية تدعم المترشحين بما يكفل لهم التغطية الإعلامية، وتتيح الفرص متساوية أمام كل المرشحين، بخلاف بلدان العالم الثالث فإن المنافس ستكتم أنفاسه ويكمم فمه، ولا تتاح له أي فرصة للتعبير عن برنامجه أو عن رأيه.

كذلك: الديمقراطية الغربية لا تقتضي حصول الشحناء والبغضاء، وإنما تقتضي التنافس النظيف الذي يقوم على أساس الوازع والضمير الوطني والضمير المهني، ومستعد لأن يكون تحت طائلة المساءلة، فإذا اكتشفت عليه أي فضيحة تجده مستعداً لأن يقدم استقالته وأن يتنازل عن الحكم، وإذا حصل عليه ضغط وعرف أن الناس لا يريدونه فإنه سيتنازل عن الحكم طائعاً، بخلاف بلدان العالم الثالث فلا يمكن أن يتخلى فيها عن الحكم، حتى لو علم أن الناس جميعاً يكرهونه غاية الكراهة، أو أنهم جميعاً مظلومون أو مضطهدون يشعرون بأنهم قد صودر منهم حكمهم، وصودرت منهم أرزاقهم، وصودرت منهم فرصهم ولم يعدل بينهم فيها.

إن أسلوب الديمقراطية مع الأسف ينخدع به كثير من الناس إذا قرءوا عنه في الكتب أو رأوه تطبيقاً في بلاد الغرب، فيظنونه هو نفس الديمقراطية التي تطبق في بلاد العالم الثالث، لكن الغربيين يعرفون الفرق بين الأمرين ويقولون: هذه الديمقراطية التي تصلح للغرب؛ لأنه على مستواها، وهذه التي تصلح للعالم الثالث؛ لأنه على مستواها، فهم يكيلون بمكيالين، المكيال الذي يكال به للفقراء والضعفاء غير المكيال الذي يكال به لشعب الله المختار من المثقفين والأغنياء.

ومن هنا يساعدون من يحمون مصالح الغرب في بلدان العالم الثالث بكل ما يحتاجون إليه، وتعرفون الانقلابات العسكرية التي يقوم بها الغربيون لصالح من يكفل لهم مصالحهم، ويقوم على رعاية مصالحهم في بلدان العالم الثالث، والسعي الحثيث الذي يسعونه للإطاحة بكل من بدر منه أي مخالفة أو أي عدول عن تحقيق المصالح الغربية.

وكذلك: الديمقراطية الغربية لا تقتضي حصول الشحناء بين الشعوب، فالشعوب المتنافسة لا يقع بينها حمل السلاح، ولا يقع بينها التهاجي والتقاذف بالكلام، بل يلقى هذا الشخص إنساناً آخر بكل ابتسامة وهو يعلم أنه سيصوت ضد من يختاره هو ومن يصوت له، بل قد تكون الأسرة الواحدة أبوها من أنصار أحد المرشحين، وأمها من أنصار أحد المرشحين الآخرين، وأحد أولادها من أنصار مرشح ثالث وهكذا، وكثير ما يقع هذا في البلدان الغربية.

بخلاف العالم الثالث فكثيراً ما يؤدي الاختلاف السياسي إلى إراقة دماء، وكثيراً ما يؤدي إلى السب والتهاجي، وكثيراً ما يؤدي إلى الضرب والشتم، ثم يؤدي إلى البغضاء الدائمة، مع أن هؤلاء الذين يتضاربون أو يتهاجون أو يتقاتلون ليس لهم من الأمر شيء، إنما باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم.