[أحوال الصحابة والسلف رضوان الله عليهم في الخشوع]
ولذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانوا عنده فتكلم كأنما على رءوسهم الطير، كما وصفهم عروة بن مسعود رضي الله عنه بقوله: (كأنما على رءوسهم الطير)، والطير إذا نزل على رءوس الإبل وجلت ووقفت ولم تتحرك من مكانها، فكذلك حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانوا عنده، فإنهم يكونون مطرقين يستمعون إلى ما يقول، وقد كانوا كذلك إذا سمعوا كلام الأئمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يطرقون لسماع الخطب وسماع الدروس من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، حتى فيمن بعدهم.
فهذا مالك بن أنس رحمه الله كان إذا تكلم أطرق الناس لكلامه، ولم يراجعه أحد في كلمة منه، كما قال عبد الملك بن المعلل: يأبى الجواب فما يكلم هيبة والسائلون نواكس الأذقان شرف الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان ولذلك عند أن كان هناك أسرة غنية في المدينة لها ولدان فقط، فحسد أحدهما الآخر فقتله غيلة، بأن ذهب به إلى بئر فرداه فيها، ومذهب أهل المدينة أن القتل غيلة ليس الحق فيه لولي الدم، بل الحق فيه للمسلمين عموماً، فالقاتل غيلة يقتل ولو عفا عنه أولياء الدم، وبه أخذ مالك رحمه الله.
فعفا والدا القتيل عن القاتل، وقالا: ليس لنا ولد سواه فنحن نعفو عنه، فوضعه أمير المدينة في السجن حتى يتبين له فيه، فجاء مالك فراجع الأمير في قتله، فقال: والداه شيخان كبيران، وقد أخبرا أنه ليس لهما ولد سواه، وهما يعفوان عنه، فقال مالك: (والله لا أتكلم في العلم حتى يقتل، فتحركت المدينة كلها حتى قتل الرجل.
وهذا إضراب من الإمام مالك رحمه الله احتجاجاً على تعطيل حد واحد من حدود الله في قضية واحدة، والناس اليوم يشهدون تعطيل الحدود كلها! ومع ذلك لا يتحرك أحد لهذا، ولا يضرب من أجله، ومالك رحمه الله يضرب عن تدريس العلم من أجل تعطيل حد واحد، ويقول: (والله! لا أتكلم في العلم حتى يقتل).
لذلك كان أولئك السلف رحمهم الله بهذا المستوى من الإيمان والخشوع والإقبال على الله سبحانه وتعالى، فكانت صلاتهم تزيدهم إيماناً ونوراً، وكانت زكاتهم تزيدهم زكاءً وقرباً، وكان صيامهم مدرسة تعودهم على التقوى كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٨٣]، وكان حجهم كذلك تصفية وتطهيراً لهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، وكما قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:٢٠٣] أي: تغفر له ذنوبه كلها فيرجع ولا إثم عليه، وإنما ذلك لمن اتقى فقط.
فلهذا كانوا في أدبار العبادات يتحلون بالصفاء المطلق؛ وتدعوهم العبادة إلى الزيادة منها، كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:٧ - ٨]، فكلما انتهوا من عبادة ازدادوا قوة ونشاطاً للعبادة الأخرى، بخلاف الذين يأتون الصلاة وهم كسالى، ولا يؤدون العبادة بإقبال كما كان أولئك، فستشق عليهم عبادتهم، وإذا انقضى رمضان لم يستطيعوا صيام ست من شوال، وإذا انقضى الحج وانتهى لم يستطيعوا العمرة، وقد ورد في متابعة الحج والعمرة الأجر الكثير؛ قال صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير صدأ الحديد).
وهكذا كانوا إذا سمعوا القرآن تأثروا به فازدادوا سخاءً وتواضعاً وإقبالاً، وإذا سمعوا أوامر الله سبحانه وتعالى فيه لم يتعدوها، ولم يتجاوزوها، كما كان عمر رضي الله عنه، ففي حديث الحر بن قيس في الصحيح قال: جاء عيينة بن حصن -وكان سيداً مطاعاً، ولكنه أحمق- فقال: إن لك وجهاً عند هذا الرجل؛ فاشفع لي عنده حتى أكلمه، فكلمه الحر، فدخل عليه عيينة فقال: أيه يا ابن الخطاب! فوالله! ما تحكم فينا بالعدل، ولا تعطينا الجزل، فغضب عمر للكذب، حتى هم به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى يقول في كتابه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:١٩٩]، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما تعداها عمر حين سمعها؛ وكان عمر وقافاً عند كتاب الله.
ونحن اليوم إذا قرئ على الإنسان شيء من كتاب الله أو استدل له بآية يحفظها، وقد يكون حفظها قبل بلوغه، بل قبل إدراكه ولكنه لم يقف عندها، فتراه يريد المراجعة، ويريد معارضتها بكلام المخلوقين، وهي كلام الخالق سبحانه وتعالى، وإذا أخبر بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك لم يقف عنده، ويريد معارضته بكلام من دونه من أتباعه، فكل هذا من الخلل البين الذي هو بسبب نقص الخشوع والإقبال على الله سبحانه وتعالى.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس في كل الأوقات، ولكنه كان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة.