[الكلام على مسألة وجوب الأصلح على الله عند المعتزلة]
ثم قال: [وليس واجباً عليه لأحد من خلقه شيء فما عليه يد] كذلك من مسائل القدر التي لم تسبق لنا مسألة مهمة؛ لأنها رد على المعتزلة والجهمية، وهي: أنه سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء، وقد زعم المعتزلة أنه يجب عليه الصلاح والأصلح في خلقه.
وهذه هي القضية التي رد فيها أبو الحسن الأشعري على أبي علي الجبائي، فسأله فقال: أرأيت الكبير الذي وفقه الله للهداية والعمل الصالح ومات على السعادة، هل فعل الله به الصلاح والأصلح؟ قال: نعم.
قال: فالصغير الذي أماته الله قبل البلوغ، هل فعل الله به الصلاح والأصلح؟ قال: نعم؛ لأنه علم أنه لو بلغ لفجر.
قال: إذاً: فسيقول الكبير الذي لم يوفق للطاعات ولا الإيمان: يا رب! لم تبلغ بي درجة الكبير الذي وفقته للطاعة، وقصرت بي دون الصغير الذي أمته قبل البلوغ؟ فلم يستطع جواب هذه، فقال: أبك جنون؟ قال: لا، ولكن وقف حمار شيخي في العقبة! فلا يجب على الله شيء، وهذا من عقيدة أهل السنة والجماعة، ومن ضروريات الإيمان بالقدر: أن الله لا يجب عليه شيء، فهو يفعل ما يشاء، ويخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، قال سبحانه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:٥١]، وقال: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣] كل هذا يقتضي تنزيهه عن أن يجب عليه شيء، لكنه يكتب على نفسه ما شاء؛ كقوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:٥٤]، فهذا يكتبه على نفسه ويلتزمه لخلقه سبحانه وتعالى تفضلاً وعدلاً.
والإيجاب إنما يتم في حق من تستطيع أن تكرهه على شيء، والله تعالى لا يمكن أن يبلغ عباده ضره ولا نفعه، ولذلك قال: (فما عليه يد)، أي: لا يمكن أن يصله نفع ولا ضر من خلقه.
ثم قال: [بل إن يثب فذاك منه فضل وإن يعاقب فهو منه عدل] إذا أثاب بالحسنى فذلك من فضله ورحمته، وإذا عاقب فذلك بعدله، وقد نفى الله سبحانه الظلم عن نفسه، فقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:٤٦]، وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
وهذه المسألة حصل فيها الغلط لدى بعض الناس؛ فزعموا أن معنى نفي الظلم عنه أنه لا يمكن أن يقع منه عقلاً أصلاً، وأن معنى الظلم عندهم: مجازاة المحسن بالإساءة، ومجازاة المسيء بالإحسان، وهذا يبيحه العقل، فأخطئوا في هذه المسألة.
والفريق الآخر قالوا: بل كل ما فعله فهو عدل، ولو كان ظلماً في حق غيره؛ لأنه من تصرف المالك بملكه، فيمكن أن يعاقب المحسن، ويثيب المسيء، وهذا أيضاً غلط؛ لأنه سبحانه حرم الظلم على نفسه.
والصواب في مثل هذا: أن الظلم الذي حرمه الله عز وجل على نفسه هو بالتعدي بمجازاة المحسن بالإساءة، ومجازاة المسيء بالإحسان، وهذا لا يمكن أن يقع؛ لأنه قال: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:٦٠]، لكن لا يجب عليه مع ذلك أن يدخل أحداً الجنة، ولا يجب عليه شيء لأحد، بل الأعمال الصالحة التي يدخل بها العبد الجنة هي بفضله وتوفيقه، ويمكن أن يتقبلها، ويمكن أن يردها؛ بحسب ما يعلم من السرائر؛ فهو مطلع عليها لا يمكن أن يخفى عليه منها شيء.
فمن عاقبه الله عز وجل فإنه يستحق تلك العقوبة قطعاً، ومن أثابه فذلك فضل من الله تعالى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)؛ لأن هذه الأعمال تقابل النعم التي لا حصر لها، فالعبادات تقابل النعم، ومن هنا لا يمكن أن يستحق بها الإنسان الجنة، وإنما هي سبب لدخول الجنة، لكنها ليست ثمناً للجنة، فالباء في قوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٧] باء السببية لا البدلية.