[الآثار الدالة على صلة الأرحام]
وكذلك ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تفسير ابن جرير بإسناد صحيح أن عمر كان يقول: أيها الناس! تعلموا أنسابكم لتصلوا بها أرحاكم، وفي رواية: تعلموا من أنسابكم ما تصلوا به أرحامكم، فإن الرحم لا توصل إلا بالمعرفة؛ فلذلك لابد أن يتعلم الإنسان رحمه.
وهذا الحق المؤكد الذي يترتب عليه صلة الله سبحانه وتعالى لمن وصله، ويترتب عليه قطيعة الله لمن قطعه، لابد أن يتعلمه الإنسان وأن يقوم به؛ لأن الإنسان لا يستغني عن صلة الله ولا يستطيع أن يقاطعه.
إن من تذكر نعمة الإيمان ثم بعدها نعمة الوجود ونعمة الجوارح ونعمة التثبيت على دين الله، عرف أنه لا يستطيع مقاطعة الله سبحانه وتعالى، فإن الهواء الذي يتنفسه أثر واحد من آثار رحمة الله، والجوارح التي ينعم بها أثر واحد من آثار رحمة الله {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:٧٣] وقال تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:٥٠].
إن الاتصال بالله سبحانه وتعالى لا يستغني عنه الإنسان في حال من الأحوال، فأعظم عقوبة يعاقب الله بها العبد أن يلعنه أو أن يطرده عن رحمة الله، والملعون المطرود عن رحمة الله لا يمكن أن يتقبل الله منه أيّ عمل، ولا يمكن أن ينعم عليه بأية نعمة، نعم يمكن أن يرزقه، لكن يكون ذلك الرزق وبالاً عليه وحسرة يوم القيامة وندامة، لا ينعم عليه بنعمه؛ لأن النعم تشريف ولا يستحق التشريف إلا من اتصل بالله سبحانه وتعالى، أما من قاطع الله عز وجل فقاطعه الله، فأولئك هم الذين نسوا الله فنسيهم، وهم المقطوعون الذين لا يطمعون في مغفرة الله ولا في رحمته، يطردون عن رحمة الله ومغفرته، نسأل الله السلامة والعافية، ومن هؤلاء القاطعون: الذين يقطعون أرحامهم في هذه الحياة الدنيا.
إن أمراً كهذا نحتاج إلى تعلمه وإلى البحث عنه؛ لأن خطاب الشارع فيه صريح، ولأن الحض النبوي فيه واضح، فما أحوجنا إلى أن نتعلم هذه الشعيرة من شعائر ديننا، وبالأخص أن كثيراً من الناس اليوم قد سرت إليهم عادات الغربيين التي يزعمونها من الحضارة، ويزعمونها من الرقي والتقدم، فأخذوا بها، فقطعوا أنسابهم وهجروا أقاربهم.
بل إن من المؤسف جداً أن تجد الرجل ينعم بأنواع النعم في المدينة ويكون أبوه وأمه في غاية ما يكونان من البؤس والشقاء، وهو لا يشعر بحال أبويه اللذين ربياه صغيراً وحملاه، وهما أمن الناس عليه، وأعظمهم نعمة عليه.
ونتذكر قول أمية بن الأسكر رضي الله عنه وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شيخاً كبيراً قد كف بصره، وكان يسكن الطائف، وكان له ولدان رباهما أحسن تربية فصحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجا في الغزو إلى القادسية وتركاه، فأرسل بقصائده يستقدمهما، يقول في إحدى هذه القصائد: يا ابني أمية إني عنكما غاني وما الغنى غير أني مرعش فاني يا ابني أمية إلا تشهدا كبري فإن نأيكما والثكل مثلان إذ يحمل الفرس الأحوى ثلاثتنا وإذ فراقكما والنأي سيان أمسيت هزءاً لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضان انعق بضأنك في نجم تحفره من البواضع واحبسها بجمدان إن ترع ضأناً فإن قد رعبتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني يا أم هيثم ماذا قلت أبلاني ريب المنون وهذان الجديدان إما تري حجري قد رك جانبه فقد يسرك صلباً غير كذان أوما تريني لا أمضي إلى سفر إلا معي واحد منكم أو اثنان ولست أهدي بلاداً كنت أسكنها قد كنت أهدي بها نفسي وصحباني فلما بلغت هذه القصيدة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص أن يرسل إليه كلاب بن أمية بن الأسكر في أسرع وقت، فأرسله سعد إلى عمر بن الخطاب، فلما أتاه سأله: بم كنت تبر أباك؟ فقال: كنت أختار خير نياقنا، فأغسل ضرعها، وأغسل الإناء وأحتلبها فيه، وأمسكها عليها حتى يشرب منها ما شاء، فدعا عمر بـ أمية فأجلسه بين يديه، وأمر كلاباً أن يحتلب الناقة دون أن يخبره به، فاحتلب تلك الناقة فأمسكها عمر على أمية، فلما ذاق طعم اللبن قال: حلب كلاب ورب الكعبة، فأمره عمر أن يلزم أباه، وألا يكون منه أبعد من سجر الكلب حتى يلقى الله، ففعل ذلك.
وهذا التنبيه العظيم من أمير المؤمنين رضي الله عنه ينبه به الأبناء على أهمية الوالدين، فإنهما إذا خرجا من هذه الدنيا وماتا لم يستطع الإنسان برهما، ولم يمكنه أن يستغني عما كانا يقدمان له، أتذكر أن أحد الدعاة المشاهير كانت له أم هو بها بر، وكانت امرأة صالحة كثيرة الدعاء والصدقة، وقيام الليل، وقراءة القرآن، فلما ماتت، قال لإخوانه: إنه كانت لي أم كنت أترك بسبب دعائها، وكنت أمهل بسبب صدقتها، وإن الله قد أخذها إليه، فدعوني أتعبد لله وأتحصن؛ فإنني كنت أترك في مقابل ما كانت تلك الأم تقدمه.
كذلك ما زاد على هذا من الأرحام الذين بين الله ولايتهم في قوله تعالى: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:٦].
فالذين هم أولياء بعض ينبغي أن يتعرف بعضهم على بعض، وأن يقوموا بحقهم وألا يهملوه، وينبغي ألا يغتر أحد بالحفاوة الدنيوية؛ فإن الإنسان يمكن أن يسامح قريبه في هذه الدنيا في حقه، لكنه إذا جاء يوم القيامة حافياً عارياً أغرل ليس مع أحد حينئذٍ إلا عمله لا ترجى منه المسامحة.
فإذا جاء في ذلك الوقت، ورأى الحق بعيني رأسه، وزالت عنه الغمرة، وكان بصره يومئذ حديداً لا يمكن أن يسامح في حقوقه، فالأنساب قد انقطعت كما قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:١٠١ - ١٠٤].
إن هذه الصلة لابد أن تبل ببلالها، وقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالحو المؤمنين، لكن لهم رحم أبلها ببلالها).