ثم بعد هذا يتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام، ويأذن في الشفاعة، وقد سبق ذكر مشهد الشفاعة:{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة:١٧] فيأتي العرض الأكبر.
يعرضون على الله تعالى لا تخفى منهم خافية، ويعطون صحائفهم، فمن معطى صحيفته بيمينه، ومن معطى صحيفته بشماله من وراء ظهره، فالذي يعطى صحيفته بيمينه تلقاء وجهه يفرح فرحاً عجيباً شديداً، والذي يعطى صحيفته بشماله من وراء ظهره يسود وجهه حتى يكون كالفحم، وتبيض وجوه أهل الإيمان وأهل السنة، وتسود وجوه أهل الكفر وأهل البدعة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}[الزمر:٦٠] قال: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة، وذلك لأن أهل البدعة كذبوا على الله فشرعوا ما لم يأذن به الله ولهذا قال:{تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}[الزمر:٦٠].
وفي هذا الوقت يبدأ جزاء الحقوق بين الناس حتى لا يبقى من الحقوق إلا حقوق الله وحده، فما من أحد سيطالب أحداً بأية مظلمة إلا سينالها في هذا الوقت، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، ويؤتى الإنسان بماله الذي لم يكن يخرج زكاته، فما من صاحب إبل لم يكن يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر يوم القيامة ليس فيها عرجاء ولا عفصاء، ولا يفقد منها كبيرة ولا صغيرة، كلما مر عليه آخرها عاد عليه أولها تطؤه بأخفافها وتنهشه بأسنانها، كذلك صاحب البقر أو الغنم.
وكذلك أصحاب الذهب والفضة، فإنها يحمى عليها في نار جهنم، ثم تجذب أشداقهم بالمجاذيب حتى تتسع، فلا يوضع دينار فوق دينار، ولا درهم فوق درهم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم:{هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}[التوبة:٣٥].