[التحذير من الجزع والخوف]
على الإنسان أن يعلم أن الجزع قبيح ووصف ذميم، وهو من الخور والضعف، ولا يرد شيئاً من قدر الله سبحانه وتعالى، وإنما يزيد الشامتين شماتة، ويزيد الأعداء تمكناً من الإنسان، ولن يحقق له أي هدف من أهدافه، ولن يوصله إلى أي مستوى من المستويات التي يطلبها؛ ولهذا كان أهل الجاهلية يتجلدون لأعدائهم، حتى قال أحدهم: وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع فالجزع لا خير فيه؛ لأنه اعتراض على الله سبحانه وتعالى في قدره وملكه، وكل ما في هذه الدنيا يتصرف فيه الباري سبحانه وتعالى تصرف المالك في ملكه، فإذا أخذ شيئاً منه فهو الذي منحه من قبل، وهو الذي أخذه بعد ذلك، ولهذا قال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٦ - ١٥٧].
فقوله: (قالوا إنا لله)، أي: نحن مملوكون له فتصرفه فينا تصرف المالك في ملكه، وهو نافذ ماض لا اعتراض لنا عليه.
(وإنا إليه راجعون) أي: نحن أيضاً سنعود إليه سبحانه وتعالى، وسيجازينا بحسب أعمالنا، ومن هنا كان الصبر مما يرجى ثوابه عند الله سبحانه وتعالى، وقد أعد لمن صبر وقال ذلك عند المصيبة هذا الجزاء العظيم الذي قال فيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (نعم العلاوة ونعم الرفدان) فالعلاوة هي قوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٧]، والرفدان {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:١٥٧]؛ فعليهم صلوات وبركات ورحمة منه سبحانه وتعالى، وهم المهتدون بشهادة الله تعالى لهم بذلك.
وأيضاً فإن الجزع مدعاة لسخط الله سبحانه وتعالى ومقته، إذ هو اعتراض عليه في ملكه، وقد روي أن الإمام سليمان بن مهران الأعمش كانت له زوجة هو بها معجب، فماتت فجأة، فحزن عليها حزناً شديداً، واحتجب عن الناس ولم يخرج لتدريس من يدرسون العلم، فبينما هو على ذلك جاءت امرأة فاستأذنت عليه، فلم يأذن لها، فقالت: إنها لن تبرح الباب حتى يخاطبها، وإنها في ضرورة وأمر ماس لا بد من إجابة الشيخ فيه.
فلما رأى إلحاحها وإصرارها دنا من الباب، فسلم فخاطبته فقالت: إن لي أختاً كانت أعارتني علقاً ثميناً وتمتعت به مدة من الزمن، ثم بعد هذا أرادت أن أعيده إليها، وأنا لا أصبر عنه ولا أقبل ذلك، فقال: أنت ظالمة! كيف تحسن إليك هذه المدة الطويلة بهذا العلق الثمين، وتنتفعين به هذه المدة، ثم بعد ذلك تطلبه وهي مالكته فتمتنعين من إرجاعه إليها؟ فقالت: أيها الشيخ! إن الله سبحانه وتعالى كان قد أسدى إليك أهلك وهي ملك له وليست ملكاً لك، ثم أخذها واستردها فما هي إلا وديعة، فكأن الشيخ سري عنه ما به، فدعا لها وانصرفت.
وهذا المعنى أخذته من قول لبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه: وما المال والأهلون إلا وديعة ولا بد يوماً أن ترد الودائع وكذلك فإن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما لما توفي العباس حزن عليه فأتاه الناس للعزاء، وكان منهم رجل من الأعراب فخاطبه بهذين البيتين البليغين فقال: اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الراس خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعباس فكان ذلك سبب صبره وثباته.
وكذلك فقد كتب أحد العلماء إلى نظير له في العلم ابتلي بمصيبة، فأراد تثبيته فيها فكتب إليه: إنا معزوك لا أنّا على ثقة من البقاء ولكن سنة الدين فما المعزى بباق بعد ميته ولا المعزي وإن عاشا إلى حين فكان ذلك بليغاً في الرثاء والعزاء.
وكذلك فإن مما يحمل الإنسان على التجمل: تذكره أنه هو أيضاً سائر في هذا الطريق، فمدة بقائه في الدنيا محدودة ولم يأتها لينال فيها كل مبتغاه، فإنما ذلك في الجنة، فهذه الدنيا لا يمكن أن تأتي على وفق المراد المطلوب.
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار فليس شيء من النعيم المقيم الدائم الخالد إلا في الجنة.