للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى]

ذكر الله سبحانه وتعالى لنا في كتابه سبع وسائل من وسائل الدعوة، واشتملت عليها آيتان من كتاب الله: الآية الأولى: آية سورة النحل، وهي قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:١٢٥]، فهذه ثلاث وسائل في هذه الآية: أولها قوله: (بالحكمة).

والحكمة في اللغة: وضع الشيء في موضعه.

بمعنى: وضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها، والقسوة في موضعها، والكلام في موضعه، والسيف في موضعه، فهذه هي الحكمة، ولهذا يقول أبو الطيب المتنبي: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى فمن هنا كان لا بد للإنسان أن يكون خبيراً بأهل زمانه حتى يضع كل شيء في موضعه، والله سبحانه وتعالى نعى على اليهود أنهم يحرفون الكلم فيضعونه في غير موضعه، وأن وضع الكلم في مواضعه هو الذي يؤثر ويفيد هنا؛ فإن الأساليب البلاغية الرنانة إذا وجهها الإنسان إلى عوام الناس نفروا منه، ولم تجد آذناً صاغية، وإذا وجهها إلى أهل البلاغة أثرت فيهم واستجذبت قلوبهم وأثرت عليهم.

ومن هنا كان الخطاب العام الذي يوجه إلى الناس عموماً ينبغي أن يكون على السليقة والفطرة، وأن لا يتقعر المتكلم في وجه الناس، وأن لا يأتي بالعبارات الرصينة التي قد تضجر عدداً كبيراً من الناس، وأن لا يأتي كذلك بالعبارة السوقية التي يستهجنها علية القوم وأشرافهم، فيكون الكلام وسطاً، وخير الأمور أوساطها.

ولهذا فإن من الحكمة أن يكون الإنسان عارفاً بمن يخاطبه، وعارفاً بأوضاع الناس، ومطلعاً على أولوياتهم وظروفهم، حتى لا يخاطبهم في أمر قد تعداه القطار وأصبح على الآثار، فكثيراً ما يتكلم بعض الناس في خطبته أو درسه على أمر قد أصبح معدوماً لا وجود له في حياة الناس، فيكون قد أفسد عليهم جزءاً من وقتهم الثمين وشغلهم بما لا يعنيهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).

كما أنه لا فائدة من إحياء أقوال بعض الطوائف التي اندثرت، أي: الكلام في بعض الفرق التي لا توجد في بلد من البلدان، فالكلام في فِرق ما عرفها أسلافهم وما علم لها تأريخ في هذا البلد ولا وصلت إليه مما لا يعني، ومما ينبغي أن يختص به أهل الاختصاص، وأن يكون لدى طلبة العلم المتخصصين، وأن لا ينشر على عوام الناس ومسامع عمومهم، وكذلك الكلام في أمور قد عرفها الناس وتداولوها، وعرفت المواقف منها، فإن تكرارها من الأمور التافهة، وقد قضى عليها الزمان وتجاوزها القطار، وكذلك الكلام في أمور لم يستوعبها الناس ولم تبلغها عقولهم بعد، فهو من الفتنة عليهم، ولذلك أخرج البخاري -تعليقاً من صحيحه- من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ وما أنت بمحدث قوماً بحديث لا تصل إليه عقولهم إلا كان فتنة عليهم).

فلذلك ينبغي أن يكون الكلام على حسب السامع، وأن لا يكون على حسب المتكلم.