[نقص الوعي بين الناس]
كذلك من أسباب انتشار الإجرام: نقص الوعي بين الناس.
فكثير من الناس وعيه وتصوره بسيط جداً وقليل، فلا يدرك المخاطر الكبيرة أمام الإجرام، ومن هنا يظن أن الأمور على طبيعة أهل البادية، يأتي فيها الإنسان بما يريد وبعد ذلك تستتر وتخفى ولا يبقى لها أثر، وكذلك كثير منهم يهمل أهل الإجرام؛ بسبب نقص وعيه هو، فيرى المجرمين ويشاهدهم، وبالإمكان أن يشهَّر بهم، وبالإمكان أن يحاول الحيلولة بينهم وبين إجرامهم، لكن إذا لم يمس الإجرام بيته أو ماله أو ما يتعلق به فإن ذلك لا يعنيه ولا يهتم به، وهو ينسى أن هذا الإجرام شديد العدوى، وهو بمثابة الحريق المستطير، إذا لم يُصب بيتك فإنه سيصيب بيت أخيك.
وقد ذكر ابن حزم رحمه الله تعالى مثالاً عجيباً فيما يتعلق بالخروج على أهل الجور والظَّلمة في زمانه، في مناظرة علمية فقهية عجيبة، قال فيها: إذا وجدت من ينكر الخروج على هؤلاء ومنافحتهم فيما هم فيه، فقل لهم: أرأيت إن اعتدي على زوجتك أكنت تسكت وتصبر؟ فسيقول: لا، فقل له: هل هي أشد حرمة من زوجات كل المسلمين؟ هل لديها حصانة تمتاز بها عن غيرها من النساء؟ إذا تجاوزت هذه فاسأله: إذا اعتدي على بيتك ومنزلك الذي تسكنه هل ستصبر وتسكت؟ فسيقول: لا، فقل له: وهل هو أشد حرمة من بيوت المسلمين؟ ويتدرج به في هذه المناظرة المقنعة العجيبة! إن كثيراً من الناس إذا رأوا المال العام ينتهك لا يعتبرون هذا جريمة؛ لأنهم لا يظنون أنهم يملكون فيه حظاً؛ لتعودهم على الاستبداد، فقد تعود الناس في كثير من البلدان على الاستبداد المطلق من قبل الدول، فظنوا أن الأملاك العامة هي ملك لأولئك المستبدين وحدهم، ولا شيء فيها لأي طرف آخر، ومن هنا إذا سرقها هذا السارق أو انتهبها هذا المنتهب، أو حصل بها أي إجرام من أنواع الإجرام، فهذا أمر لا يعنينا ولا نتدخل فيه، إن هذا المال الذي ينتهب ويسرق هو مالك، ولك فيه حظ ولأولادك ولمن بعدك ولجيرانك، وهو عموماً مال المسلمين، وأنت مخاطب شرعاً بحمايته وحفظه ما استطعت.
إن الذي يرى محاسباً أو مديراً أو رئيس مصلحة يجرم بأخذ المال العام ويسرف فيه ويعتدي فيه حدود الشرع، فلا يعتبر هذا جريمة متعلقة بحقه الشخصي، ولا يلفت هذا انتباهه ولا اهتمامه، هو غير واع بالواقع؛ لأن هذا الذي ينتهك هو ملكك وهو مصالحك ومصالح أهلك وشعبك كله، وإذا أهملتها أنت ولم تراعها فسيهملها من سواك، ومن هنا يترسخ الاستبداد ويترسخ الإتلاف، وتستمر الجرائم إلى هذا الحد الذي ليس بعده إلا الدمار الشامل.
إن هذه الجرائم المنظمة إنما تنتشر في البلدان التي ينقص فيها الوعي بين الناس؛ لأن الناس إذا كانوا على وعي بها فسيأخذون حذرهم، وسيحافظ كل إنسان منهم بما يستطيع من الوسائل للنجاة من هذه الجرائم، لكن إذا نقص الوعي عند الناس فأصبحت الأمور تؤخذ تارة بمأخذ الجد، وتارة بمأخذ الهزل، حتى يلتبس الجد والهزل على الناس كما قال الشاعر: تخلط الجد بأنواع اللعب فإن الأمر سيذوب ويزول، ولا يكون له حام ولا مدافع.
تنتشر جريمة من الجرائم، كبيع المخدرات أو استعمالها أو غير ذلك من أنواع الجرائم، فيقام بالمبادرة لمكافحة هذه الجريمة، وتأتي هذه المبادرة جادة في البداية، ثم إذا وصلت إلى حلقات معينة يسدل عليها الستار، ويأتي اللعب بدل الجد، وتذهب الأمور وتزول؛ لتزداد هذه المشكلات والجرائم، ويزداد الطين بلة.
وكذلك يقتل القاتل عمداً وعدواناً فيحكم عليه القاضي بالقصاص، ويطالب أولياء الدم به، وهذا القصاص قد جعل الله فيه حياة كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:١٧٩]، فيصلون إلى حلقة من الحلقات ثم يتوقف فيها الملف وينتهي الأمر، بل يودع كثير من هؤلاء السجون وهي مدارس للإجرام، فيتمرسون على الجرائم بأكثر مما كانوا عليه، فلا يخرج أحدهم من السجن إلا وقد ذهب ما بقي ما معه من أخلاق ومن دين ومن قيم، ويأتي لينشر ذلك في المجتمع، فيصبح أستاذاً في الإجرام، وما أكثر دكاترة الإجرام بين الناس اليوم الذين مهروا فيه ودربوا عليه فيأتون لتعليمه ونشره بين الناس! إن كثيراً من هؤلاء ينظر الناس إليهم نظرة تقدير واحترام؛ ولهذا لا تستغربوا إذا ولي السارق منصباً سامياً بعد أن ثبتت عليه السرقة وعزل من منصبه؛ لأن هذا راجع إلى عدم وعي الناس، فالناس يحترمونه ويقدرونه، وإذا دخل مجلساً قام الناس إليه احتراماً له، فلا يستغرب عندما يعيَّن في وظيفة سامية؛ لأن الحكومات إنما تنظر في بعض الأحيان إلى آراء الناس ومن يقدرونه ويحترمونه، لكن إذا حصل الوعي لدى الناس؛ فأصبح السارق يعرف أنه سارق، وأنه مهين، لا كرامة له بين الناس، وأنه قد أهدر كرامته بسرقته ونهبته، وأصبح الزاني كذلك يعرف عنه هذا ويعرف مهانته على الناس، وأصبح كل مجرم يستشعر بين الناس إهانة ومذلة؛ فإن هذا هو الذي يكافح هذه الجريمة.
وانظروا إلى تأديب النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الذين اقترفوا بعض الجرائم من أصحابه: تخلف ثلاثة رجال من الصالحين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غزوة أمر فيها بأن لا يتخلف عنه أحد يقدر على القتال إلا بإذنه، فتخلف هؤلاء بسبب طول الأمل، فكانوا كل يوم يريدون الخروج ولا يتمكنون منه، فيقولون: لعلنا نخرج غداً، حتى قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً من تبوك، فلما قفل ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، واستشعروا الإجرام والذنب الذي وقعوا فيه؛ فليسوا مثلنا؛ هم أهل الإيمان وأهل الصحبة والجهاد في سبيل الله.
ولذلك إذا وقع أحد منهم في ذنب خفيف ضاقت عليه الأرض بما رحبت، واستشعر موقفه بين يدي الله، واستشعر عظمة من عصاه، لذلك ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه.
فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء المنافقون فاعتذروا وحلفوا، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذرهم ووكلهم إلى الله وكل سرائرهم إلى الله، وجاء هؤلاء الثلاثة فصدقوا ولم يكذبوا ولم يحلفوا، بل أخبروا أنهم تخلفوا من غير سبب، وأن الشيطان غرهم بطول الأمل، وأنهم تائبون نادمون على ما فعلوا، فأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم حتى ينزل عليه فيهم الوحي، لكنه أدبهم تأديباً بالغاً يكون رادعاً لكل المؤمنين ممن وراءهم، فأمر الناس ألا يردوا عليهم السلام، وألا يردوا عليهم في أي شيء، فقاطعهم المجتمع حتى زوجاتهم وأحب الناس إليهم، لم يرد أحد عليهم السلام، ولم يكلمهم بأي كلام، يقول كعب بن مالك حين طالت عليه المقاطعة: خرجت إلى أبي قتادة -وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي- فطرقت عليه الباب واستأذنته، فلما عرفني لم يأذن لي، فتسورت عليه حتى دخلت عليه، فسلمت عليه، فلم يزل جالساً مشتغلاً بما كان مشتغلاً به، فقلت: يا ابن عمي! ألست تشهد أني أحب الله ورسوله؟! فما رد علي ببنت شفة، بل سمعته حين أعرضت عنه أبكي يقول: الله ورسوله أعلم! فرجعت إلى داري وقد ضاقت علي الأرض بما رحبت.
فهذا الاستشعار الذي يستشعره من وقع في جريمة، عندما يرى مقاطعة الناس له يستشعر فعلاً أنه مجرم، وأنه ينبغي أن يقاطع، وليس أهلاً لاحترام ولا لتقدير، فهذا الذي يكون رادعاً له عن جريمته ويرده عنها.