[كمال الإسلام وعدم قبوله للزيادة والنقص]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده خير الدين، وأرسل به أفضل الرسل وأنزل به أفضل الكتب، وارتضاه للناس وقال فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣].
وقد نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، العاشر من شهر ذي الحجة وهو واقف بعرفة بعد أن صلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً ووقف في الموقف، وكان ذلك في العام العاشر من الهجرة، ولم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها إلا اثنين وثمانين يوماً، وقد بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أنزلت هذه الآية، فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: لم يتم شيء إلا نقص.
وقد صح عنه رضي الله عنه أن حبراً من اليهود أتاه فقال: (يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم لو علينا معاشر اليهود أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال: وما هي؟ فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣]، فقال عمر: أما إنها أنزلت يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة).
إن هذه الآية قد حددت أن الدين المرضي عند الله هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يمكن أن يزداد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن ينقص منه، ولذلك قال مالك رحمه الله: قد أنزل الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً.
ومن هنا: فكل ما يزيده الناس وكل ما ينقصونه من الدين فإنما هو إما إفراط وإما تفريط، فالإفراط بالزيادة في الدين والتفريط بالنقص منه والتقصير عما طلب فيه، وكلا الأمرين مقيت شرعاً، والتوسط بينهما هو العدل الذي به قامت السماوات والأرض، وهو الذي أنزل الله به الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ارتضى من عباده، فكل ما شرعه الله لعباده فهو المصلحة المتوسطة التي تراعي أمور الدنيا وأمور الآخرة، وتراعي حقوق الأفراد، وتراعي حقوق الجماعات، وتراعي حقوق الرب جل وعلا وحقوق العبد، وهذه الأمور لا يمكن أن يراعيها مشرع إلا العليم الخبير اللطيف الذي يعلم السر وأخفى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤].
من هنا فلا يمكن أن يأتي أحد بأعدل مما شرعه الله لعباده، ولا يمكن أن يأتي بما هو مصلحة إلا ما شرع الله لعباده، فكل ما شرعه الله لعباده فهو مصلحتهم، لكن قد يغيب عن الإنسان وجه المصلحة فيه؛ لأنه لا يخطر بباله ما يتعلق بالآخرة، فيظن أن المصلحة مقصورة على أمور الدنيا فقط.
ولذلك فمصائب المؤمنين وبلاياهم هي عين المصلحة عند الله، وذلك أنها تكفر من سيئاتهم، وترفع من درجاتهم، وتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، وتلهمهم اللجوء إليه وتذكرهم به سبحانه وتعالى، فإن الغنى مدعاة للطغيان ومدعاة للنسيان، فإذا لم يمرض الإنسان ولم يشتك من أية شكوى؛ لم يتذكر حاجته إلى الباري سبحانه وتعالى، ولم يحسن الضراعة إليه والدعاء.
وكذلك فإن المصالح الأخروية لا يمكن أن تدرك بمقتضى العقول الدنيوية؛ لأن الإنسان إنما ينطلق من المعايير المادية التي يمكن أن تقاس بها أمور الدنيا، ولا يمكن أن تقاس بها أمور الآخرة، فالوزن باعتبار الدنيا إنما هو بالثقل والوزن في الآخرة إنما هو بما عند الله، ولذلك رجحت بطاقة قدر الكف فيها (لا إله إلا الله) على السجلات التي سدت الأفق، فطاشت السجلات، {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:٨].
ولذلك فالوزن الدنيوي هو وزن مادي تراعى فيه الظواهر فقط، والوزن يومئذ -أي: في يوم القيامة- هو الحق الذي لا يمكن أن يلتبس بغيره، ولا أن يخالطه باطل في وجه من الوجوه، إذا عرفنا هذا أدركنا أن كل ما شرعه لنا ربنا سبحانه وتعالى فهو عين المصلحة لنا وإن خفي علينا ذلك، وأن علينا أن نرضى بكل ما شرعه الباري سبحانه وتعالى بكل استسلام وطمأنينة، وأن نعلم أنه سبحانه وتعالى غني عنا وعما يصيبنا وعما يعطينا، فهو الغني الحميد لا يصل إليه نفع ولا ضر من عباده، (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني).
وقد بين سبحانه وتعالى أن الخلائق جميعاً لو كانوا على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، ولو كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً.