وبهذا يعلم المؤمن أن تنافس الناس في هذه الدنيا وفي زهرتها وملكها قد سبق هذا الزمان، وأنها لو كانت تدوم لأحد لما وصلت إلينا اليوم؛ ولذلك قال أحد الوعاظ لأحد الملوك حين جلس في ملكه واستعرض جيشه وإمكانياته المختلفة، قال له: لو دامت لغيرك ما وصلت إليك! فتذكر مفارقة السابقين لها والحال الذين كانوا فيه، وهذا ما أرشدنا الله إليه في بيان أن السابقين قد عمروها أكثر مما عمرها اللاحقون، فأولئك قد مكن لهم في الأرض ما لم يمكن لنا، ومع ذلك خرجوا منها وتركوها وراء ظهورهم.
فلذلك لما خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مكة في حجته، وقف على ضجنان وهو جبل في شمال مكة فقال: كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان فكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت، وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه، ثم أنشأ يقول: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن قيصر يوم خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا وكما قال الآخر: ذهب الزمان فلا زمان جمانا وكأن ما قد كان لم يك كانا يا من لشيخ قد تطاول عهده أفنى ثلاث عمائم ألوانا سوداء حالكة وسحق مهوف وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا فبينا الإنسان مشتغل بهذه الدنيا يهدبها ويطول أمله فيها، وكلما فتح له منها باب تمنى أن يكون وراءه أبواب، إذا بالموت يهجم عليه فلا يرده حراس ولا أعوان ولا يجد مدافعاً عن الباب كما قال ابن مناذر: كل حي لاق الحمام فمودي ما لحي مأمل من خلود لا تهاب المنون شيئاً ولا تبـ ـقي على والد ولا مولود يرضخ الدهر في شماريخ رضوى ويحط الصخور من هبود ولقد تترك الحوادث والأيا م وهياً في الصخرة الجلمود يفعل الله ما يشاء فيمضي ما لفعل الإله من مردود فكأن أهل الموت ركب محثو ن سراعٌ لمنهل مورود إذا تذكر الإنسان سرعة زوال هذه الدنيا وتقلباتها علم أنها ليست دار بقاء ولا خلود، وأن حال الذي يرجو فيها البقاء ويريد أن لا يناله فيها كدر هو كما قال الشاعر: طبعت على كدر وأنت تريدها خلواً من الأقذار والأكدار وهذا ما لا يمكن أن يتم أبداً.