الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنس والجن لعبادته، وجعلهم متفاوتين في أداء هذا الحق الذي من أجله خلقوا، فمنهم من يوفق بتوفيق الله سبحانه وتعالى إلى استغلال ما أنعم الله به عليه من العمر والوقت فيما خلق من أجله، وأولئك هم الشاكرون، وقليل ما هم كما قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ:١٣].
ومنهم من يستغل ما أنعم الله به عليه من النعم في عداوته ومعصيته، وأولئك هم المخذولون الذين لا يباليهم الله باله، ولا يضرون الله سبحانه وتعالى شيئاً، وإنما يضرون أنفسهم، ومنهم من يستغل نعم الله عليه في اللغو المباح فهذه النعم لا له ولا عليه منها، ولكن أولئك قد خسروا وفاتتهم الصفقات المربحة، وكثير من الذين يظهرون في صورة العابدين تكون عباداتهم جثثاً ميتة ليس فيها روح، وذلك أن روح العبادة هو الخشوع لله سبحانه وتعالى، والتأدب بأدبه، والخضوع بين يديه، والمذلة لوجهه العظيم الذي تعنو له الوجوه يوم القيامة كما قال تعالى:{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا}[طه:١١١].
فيحتاج المؤمن إلى التخلق بهذا الأدب العظيم مع الله سبحانه وتعالى، وأن يكون من الخاشعين لله، وأولئك الخاشعون هم المخبتون الذين بشرهم الله بالبشارة العظيمة في كتابه، فقد قال الله تعالى:{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[الحج:٣٤ - ٣٥]، فأولئك قد اتصفوا بهذا الأدب مع الله سبحانه وتعالى فعرفوه ولذلك أحسنوا عبادته، وعرفوا أن مدة بقائهم في هذه الحياة مدة محصورة يسيرة، وأن فائدتها القرب منه سبحانه وتعالى، فتنافسوا في التقرب إليه، وبادروا قبل أن تفجأهم الملهيات والشواغل التي تحول بينهم وبين ذلك، فقد علموا أن لهم أوقاتاً لا يستطيعون فيها عبادة الله، وعرفوا أن شواغل هذه الدنيا كثيرة، وأن الأوقات التي تخلص للإنسان ليعبد الله فيها ويصدق معه يسيرة، فبادروا فقطعوا المراحل، وسبقوا الشيطان، فلم يبق له على آثارهم إلا الندم، وأولئك قد عرفوا هذا الطريق فلزموه، فهم في سباق مع الزمن، وأيامهم ولياليهم مشغولة بالتقرب إلى الله سبحانه وتعالى وقطع المسافات الشاسعة في القرب إليه، والله سبحانه وتعالى يتقرب إليهم بأبلغ من ذلك، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال:(أنا عند ظن عبدي بي، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب ألي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، فسبحان ربنا ما أحلمه وما أكرمه!.
إن الله سبحانه وتعالى غني عن العبادات التي يؤديها أصحابها بقلوب غافلة لاهية، وإنه سبحانه وتعالى إذا أقبل عليه العبد بخشوع أقبل عليه الباري سبحانه وتعالى، ويكفي ذلك شرفاً ومكانة، ولذلك جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ولا يزال الله مقبلاً على العبد -وهو في صلاته- ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه).