بعد هاتين التجربتين جاءت تجارب متفاوتة، وجاءت دعوات فردية، قام بها بعض العلماء في فترات وحقب تاريخية متفاوتة، دعوا لإعادة هذه الخلافة وهذه الدولة على ما كانت عليه، فمن هؤلاء مثلاً: مختار الكنسي، الذي دعا لإقامة خلافة راشدة، ولكن الوقت لم يساعده في بلده، مع أنه كان يرى من نفسه القوة على ذلك، وكان يساعد المظلومين بتسيير الجيوش لنصرتهم، ولكنه على الأقل استطاع أن يقيم دولة خارج الحدود، وهي دولة عثمان فوجي التي قامت في نيجيريا، فـ عثمان فوجي هذا كان من تلامذة المختار الكنسي، وهو الذي بعثه ليقيم دولة الإسلام في تلك البلاد، فأقامها وما زالت آثارها إلى وقتنا هذا، وكانت تطبق الحدود، وتغزو في سبيل الله وتجاهد، وفيها تعلم الحاج عمر طال الذي جاء إلى هذه البلاد، وحاول إقامة دولة إسلامية.
وكذلك الأمير عبد القادر الفوتي، وهو من قبيلة الهلان، قام في فوتا، فدعا لإقامة دولة الإسلام من جديد، وساعده رجال متفاوتون، واستجلب العلماء من مختلف المناطق، فلما أتى إليه بعض أهل العلم أقام الحجة على أهل تلك البلاد، وجاهد في سبيل الله تعالى، وطبق الحدود؛ ولذلك يقول الشيخ محمد المامي رحمه الله تعالى: لله در الأمير عبد القادر! فلقد شهدته ضحوة في فوتا يقطع أيدي السراق، ويقيم الحدود على الزناة.
فالأمير عبد القادر أقام دولة لم يكتب لها البقاء كثيراً، ولكنها هي التي بنى على أنقاضها الحاج عمر طال، فـ الحاج عمر جاء من نيجيريا، وقد فرأى الدولة التي أقامها أحفاد عثمان فوجي هناك، فأراد أن ينقل التجربة بكل ما فيها، فسعى من أجل إقامة دولة الإسلام في هذه البلاد، فأرسل جيشاً كثيفاً من تلامذته ومريديه وطلابه إلى جنوب النهر، فدعا بدعاية الإسلام في السنغال وفي غامبيا، حتى وصل هو نفسه إلى (بانجول)، وكان يقيم الحدود أيضاً ما استطاع، وكان يعلم الناس الإسلام، وكان يأخذ أولادهم، ويعطيهم بدل أولادهم نقوداً؛ لأن الناس كانوا قد تعودوا على المادية، فكانوا يبيعون أولادهم للحاج عمر، وهو لا يريد تملكهم، وإنما يريد تعليمهم دين الله تعالى، فإذا تعلموا أرجعهم إلى ذويهم وقال: أنت من قرية كذا فاذهب إلى قريتك، وأنت من قصر كذا فاذهب إلى قصرك، بعد أن تحملوا العلم والدين وتربوا تربية صالحة.
وكذلك دعا إلى هذه الدعوة الشيخ محمد المامي في الشمال، وحاول إرجاع الناس إلى إقامة هذه الدولة الراشدة، وإحياء عهد قد سبق في زمن الاستضعاف، وهو العهد الذي قام به الخمسة الذين يسميهم الناس بتشمشة، وهم خمسة رجال، لا يجمعهم نسب، وإنما اجتمعوا في ذات الله، فتعاهدوا على خواتيم سورة الفرقان من قول الله تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}[الفرقان:٦٣ - ٦٤] إلى آخر الآيات، ودعوتهم ليست مثل الدعوات الأخرى؛ لأنهم لم يريدوا إقامة دولة ولم يحاولوا بيعة رجل، إلا أنهم حاولوا فيما بينهم أن يقيموا بعض هياكل الدولة وبناها التحتية على الأقل، فلذلك قسموا الأرض تقسيماً عادلاً بينهم، ويقول في ذلك الشيخ محمد المامي: تيامن من تضاعف وانفردنا بثغر لا يقال به منوناً وأقاموا قاضياً منهم يفصل بين الناس بالعدل، فأقاموا على الأقل بعض البنى، والشيخ محمد المامي أراد أن يدعو الناس إلى بيعة خليفة، وفي ذلك يقول في قصيدته النونية المشهورة: بلاد العامري لنا اصطفاها فبارك ربه فيها وفينا إلى أن يقول فيها: فصارت في جزيرتها حجازاً ونحن لها معداً آخرينا نوافي كل طاغية أتانا ومسكين بعيد الأقربينا وننبذ من أتى منا بأمر له أهل الشريعة منكرونا والأفوة قبل لم ينكر عليه مصير بلادنا حرماً أميناً إلى أن قال فيها: إلى كم قولكم مستضعفون وأنتم للمعالي تاركونا بنو العباس ما زالوا كراماً يقتل جمعهم ويصلبونا إلى أن أدركوا ثأراً لقرن وما أدركتم ثأراً قرونا إلى أن يقول: أطابيل الأنام جفوتموها بطبع في الخنازر لن يزينا وهل فيكم نساء محصنات وما كنتم لها يوماً حصونا وهل حضيت نساء تحت بعل إذا كان الرجال مخنثينا ويقول فيها: فلم يكتب عليكم من قتال ولا قتل على ما تزعمونا إلى أن يقول: أثيروا الغرب قبل قيام عيسى لعل الله ينعشه سنينا فيحكم حاكم بالعدل منكم فلستم بعده تتقاتلونا وينفي ظلم بعضكم لبعض إلى أن يقول فيها: فقلتم لا جهاد بلا إمام نبايعه فهلا تنصبونا وقلتم لا إمام بلا جهاد يعززه فهلا تضربونا إذا جاء الدليل وفيه دور كفى ردعاً لقوم يعقلونا فياشمشة أهل الذكر منكم سلوا إن كنتم لا تعلمونا تعين ذاك وليسأل سواكم سواهم من يجيب السائلينا كحرمة أو كباب بني علي فإني منهما في الداخلينا وآل الحاج أنصار كرام إلى أولاده جبنة ينسبونا